Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

روايه عابد المصري - الحلقه الثالثه

حصريا لاول مره علي الانترنت

بتصريح خاص من الكاتب للمجموعه 73 مؤرخين

لا يجوز اعاده النشر بدون الاشاره للكاتب والموقع كمصدر

 

عـــابد المصـرى .. رواية

كتبها/أسـامة على الصـادق

.....

الطبعة الأولى .. يوليو 2010

الناشر: الكاتب

.....

تصميم الغلاف:

ريهام سهيل

....

حقوق الطبع محفوظة للكاتب

المفــاجأة الثانية

 

    لم أحصل على نوم مريح تلك الليلة حيث ُكنت أتقلب من التفكير على كل جانب وفى بعض الأحيان أتحدث مع نفسى : هل ما أخبرت به " ُرقيـة" ظهر هذا اليوم هو قرار صائب أما أنه اندفاع أهوج وراء العاطفة المتأججة والتى فضحتنى حين إقتربت منى تحدثنى؟ كنت أحاول تبرير إخبارى لها برغبتى بالتقدم لها وأنا أعتقد أنها سوف تخبر أمها ولا أستطيع الرجوع فى هذا القرار ليس لأنها أقل منى ثقافة أو مستوى اجتماعى ، لكن ظروف عملى هى السبب وهل سأظل أعيش بجوارهم أزرع وأحصد وأرعى الغنم والماعز والجمال وأساعد في صناعة الجبن؟ أعتقد أنه لا بد لى من العودة إلى مصر وأنضم لجيشها حتي تزول تلك الغمة وأنا أعتقد بأنه عن قريب سوف يحدث هذا ففى الأشهر القليلة الماضية علمت من الراديو القديم التي تمتلكه الأسرة بأن قواتنا في كل الأفرع تقوم بتوجيه ضربات نافذة إلى قوات العدو.

   نهضت صبيحة ذلك اليوم وقد غمرنى النشاط من الراحة التي حصلت عليها أمس بالإضافة إلى شعورى بأنني ُمقبل على ارتباط مهم يخطط مستقبل حياتى حتى نهاية العمر إذا وافقت الأسرة على أن أرتبط بهم ، كنت أشعر براحة بال من حالة تأنيب الضمير التي لازمتنى بعد ما حدث بفكرى وعقلى تجاه ُرقيـة.

    شاهدت الرجل الذى أتى بالمساء لشراء نبات الكرنب وقد غادر فرشته التى يحملها معه في أسفاره وجلس بجوار جمله يتناول طعامه التى أعدته ربة الدار ، ألقيت عليه تحية الصباح فأشار لى بتحية فاترة ثم أشار بأن أقوم على تحميل الخضار على جمله ، لم أنتظر حتى ُينهى حديثه حيث كان باديا عليه عدم الألفة وقسمات وجه تدل علي أنه حاد التصرفات.

    أقبلت على أداء عملى بكل همة ونشاط وقد مضى علي وجودى حوالى الساعة اعتقدت خلالها الأسرة بأننى مازلت سابحا فى النوم لأحصل علي راحة ولكن حين صعدت إحدى الفتيات حاملة لى طعام الإفطار لم تجدنى وشاهدتنى من أعلى الدار وأنا أقوم بعملى فأسرعت تخبر الأسرة مما دفع بكل من " ُرقية وعائشة " للحاق بى ولكنني كنت انتهيت من عملى مما دفع الأعرابى للنهوض من جلسته حيث كان يدخن سيجارة وأقبل علىّ شاكرا نشاطى وهمتى وسألنى ما اسمك فأسرعت عائشة لتخبره ، هذا عيد شقيقى والذى يتعلم بمصر ، أعاد الرجل شكره وثناءه وأقبلت الخالة زهرة فتحدث الرجل معها قليلا ثم ناولها ثمن المحصول ونهض الجمل وسار الرجل خلفه حتى ابتعد عن أنظارنا ، هنا طلبت منا زهرة أن نتجه لداخل الدار لنحصل علي طعامنا فليس أمامنا عمل بالخارج ولنعتكف ونتسامر ونجلس حول شاليه النار التى سبق وأن أعدتها لنا.

    قفزت الفتاتان وأسرعتا بالدخول إلى المنزل ، هنا نظرت إلىّ زهرة نظرة لم ألحظها عليها من قبل ولكنها نظرة تدل على أن هناك شيئا ً ما ، كانت نظرة رضا وسعادة لما صاحبها من بسمة على الشفاه جعلت شفتيها الرقيقتين تبتعدان قليلا عن بعضهما فظهرت أسنانها البيضاء.

    شاهدت أبا السعادات يجلس على الفرشة التى سيوضع عليها الطعام وقد جلست ابنته الصغيرة زينب على ساقيه يلاعب بأصابع يده خصلات شعرها الرقيق الناعم ، حين شاهدنى ألقي علىّ التحية وأشار بيده أرضا بأن أقبل وأجلس بجواره ، تبعت نصيحته وجلست مجاورا له نتحدث عن بعض الأخبار ، أثناء هذا كانت الفتيات الثلاث قد انتهين من إحضار الطعام حيث كانت الخالة زهرة خارج الدار عائدة تحمل شاليه النار التي سوف تدخل الدفء إلى أجسادنا التي نحلتها برودة الأيام السابقة.

   بدأت الأيدى تمتد إلى الأطباق لتحصل على الطعام وتدفعه في الأفواه الضاحكة الباسمة الشاكرة نعمة الله ،  قبل البدء بتناول الطعام ذكرت الخالة زهرة بعض كلمات تعبر عن الشكر والامتنان لله علي نعمته عليها وعلي أطفالها وعلي عودة الزوج راجية أن تكتمل بعودة ابنها عيد من القاهرة ، لم ينقطع الحديث والضحك خاصة من الفتيات والتى تفتحت معه الشهية للضحكات الطيبة من الأفواه الجميلة ، ُكنت فى سعادة غامرة بأن نجتمع حول مائدة الطعام البسيطة البدائية فليس بمائدة أو حتى طبلية بل صينية كبيرة صفت علي حوافها الأطباق من مختلف الأطعمة.

    انتهينا من تناول الطعام وقامت الفتيات برفع الأطباق وبقايا الطعام من على الأرض لتفسح مجالا للجلوس المريح لأفراد الأسرة ، أمام باب الدار من الخارج قامت نفيسة بصب الماء على يد والدها للتخلص من بقايا الطعام ثم تبعته ولحقت بنا زينب وتبادلنا صب الماء على بعضنا البعض حتي وصلت   " ُرقيـة " فكان دورى قد أتى لأقوم بصب الماء على يديها لتغتسل ، كانت الفتاة غاية في الخجل محاولة أخذ إبريق الماء من يدى وأن تصب الماء على نفسها ولكننى صممت على أن أقوم بما قام به أخوتها ، كان المكان خاليا من عائلتها التى أسرعت للداخل تلتمس الدفء من الشاليه المتقدة نارًا ، بقيت مع " ُرقيـة " نلتمس الدفء من حرارة الحب النابض فى دمائنا.

    انتهت الفتاة من غسل يدها وفمها حيث كنت أركز نظرى خلال ذلك عليها لأتفحص مواطن الجمال التى دفعتنى إليها دفعاً ، كانت نظرتى صائبة فقد أنعم الله عليها بجمال طبيعى أخاذ ، كل مواصفات الجمال التى قرأت عنها أو شاهدت بعضها على الممثلات سواء مصريات أو أجنبيات لم تكن " رُقيـة " أقل منهن بل تزيد عنهن خاصة حين تنضج ويصبح عمرها عشرين عاما أو بعد هذا بعامين أو ثلاثة على أقل تقدير حتى تتضح معالم الأنوثة الكاملة والتى تعطى للفتاة منحة من الجمال الإلهى التى وهبها الله لبنات حواء.

     جلسنا جميعا وأقبلت الأم حاملة إناء الشاى بينما تبادلت الفتيات الجلوس بجوار الأب العائد ، كل فتاة تشعر بأن لها نصيبا من هذا الأب رغم أنهم تركوا لشقيقتهم الصغرى الحرية الكاملة في الجلوس بجواره ، ُكنت سعيدا فرحا بتلك العائلة المترابطة الحامدة لله رغم ما تجابهه من أحداث.

      روى لنا الأب قصة القبض عليه بمعرفة القوات الإسرائيلية ومدى ما لاقاه من عنف وأسئلة متعددة حول نشاطه الخفى خلف نشاطه التجارى ، ظل يتنقل من معتقل إلى آخر حتى تم الإفراج عنه ولم يحصل علي أى شئ من بضاعته التي كان يحملها سوى الجمل بينما صادر المحتل البضاعة والأموال التي كانت في حوزته ، كان الرجل يقص على أسرته الرواية وهو هادئ البال غير منفعل أو متوتر، نظر إلىّ ثم قال : كنت في المحور الأوسط قريبا من مفارق الحسنة وهناك شاهدت المعارك الرهيبة بين الجيشين المصرى والإسرائيلى واختبأت بجملى خلف الصخور بعيدًا عن الوادى الذى كانت تدور به المعارك القاسية لمدة لا تقل عن عشر ساعات ؛ حيث حسم القتال الطيران الإسرائيلى ، فى المساء غادرت مخبئى وشاهدت الشهداء والجرحى المصريين وتمكنت من إسعاف بعضهم ورويت عطش الآخرين حتى صباح اليوم التالى ، وقد غادر الجرحى المكان متجهين جهة الغرب لتنفيذ أمر الانسحاب الصادر لهم من القيادة بالقاهرة.

     استمر أبو السعادات يقص ويحكى ما شاهده كما تبين لى من حديثه بأن الرجل يعلم مهنتى ووظيفتى وسبب حضورى لدارهم وأعتقد أن كل تلك المعلومات بثتها له زوجته زهرة مساء يوم عودته من الأسر لدى الأعداء ، مازلنا نجلس حول الشاليه الرائعة بنيرانها المشتعلة والتى أضاءت المكان ونشرت الدفء في ربوع الدار كما أضحت المشروبات الساخنة المتتالية أحد عناصر البهجة والفرحة للجميع.

     تسللت الأم من مكان جلوسنا وتبعتها الفتيات واحدة تلو الأخرى وظللت جالسا مع أبى السعادات نتحدث فى أحاديث ودية جميلة ثم تطرق الرجل فى حديثه معى عن شخصى وتساءل من أى بلد من مصر ثم عملى وعائلتى ، كانت الأسئلة تدل على أن ما أفصحت به لـ " ُرقيـة " قد انتشر بين أفراد العائلة ، كان هذا واضحا من الأسئلة التى يوجهها لى الأب فهى تدل علي ذلك ولهذا طلبت منه أن نتحدث حديثا محددا فى أمر مهم ، هنا اعتدل في جلسته وطلب من صغيرته زينب أن تلحق بشقيقاتها.

     عم الصمت والسكون المكان ولم يكن هناك صوت سوى صوت طقطقة الأخشاب المحترقة بالشاليه وألسنة اللهب التى كانت مثل أمواج من الاضواء اللامعة ، تحدثت قائلا:

ـ عمى أبو السعادات ، النهارده أنا مسرور وسعيد إنى قاعد مع العيلة وبنتكلم وبنضحك وبناكل من طبق واحد وبنشرب من كباية ميه واحده ، يعنى كده عيله واحده وعشان كده أنا بأتقدم وباطلب إيد بنتك " ُرقيـة "

صمت الرجل لبعض الوقت كأنه يستوعب كلماتى ويعد الرد المناسب عليها حيث قال:

ـ هادي الحكاية تسر أى أب أن فيه زلمه مليح يتجدم لبنته وتكون العيله مبسوطه منه وانا عرفت حكايتك من الأول وأنك أحد ضباط الجيش المصرى واللى حاربت وكان واضح هذا علي هدومك وحالتك الصحية اللى ُكنت عليها لكن عايز أفهم منك كيف حتجوز وحتفضل هنا وإلا ح تعود لمصر ولو رجعت حيكون وضع البنت إيه ، عرفنى بالله عليك بكل ما بيدور في خاطرك؟

ـ لو حصل نصيب ووافقت على طلبي ح تكون قراءة فاتحة ومش ح أقدر أقدم خاتم الخطوبة لظروفى المالية الحالية ، ح أرجع مصر وأنضم للجيش بتاعنا ولما نحارب ونخلص الأرض من المحتل نجوز ونعيش في مصر أو العريش ، والمكان مش هوه المهم لكن المهم هو عملى ح يكون فين.

ـ كلامك زين والله ومترتب علي الظرف اللى احنا واجعين فيه ، لكن مش عارف لو الظروف مجتش مناسبة وفضل الاحتلال فترة طويلة أوُ حصل في سينا زى ما ُحصل لفلسطين مش عارف كيف ح تسوى؟

ـ أنا قلت علي الواقع وأنت حاسـس بكده لكن أن الوضع في سينا ح يبقى زى الوضع في فلسطين ده مش ح يحصل أبدا ًوأنت يظهر عليك مش عارف قدرة بلدك وجيشك؟

ـ لأ إزاى لكنى كأب بخاف من الحكاية دية وعلى كل حال أنا ح أسأل البنت وأمها وارد عليك

ـ ده كويس وأنا يدوب أروح أريح جسمى شوية .. السلام عليكم

بعدها نهضت متوجها إلى حجرتى بسطح الدار.

     اليوم التالى سارت الأمور على ما يرام حيث أرسل لى أبو السعادات ابنته عائشة ليخبرنى بالخبر السعيد ، غادرت حجرتى وتسلقت السلم وجلست مع الأسرة وتمت قراءة الفاتحة ولم يحدث أى شئ غير طبيعى فالملابس كما هى والطعام والشراب كما هو ولكن ما جد هى تلك السعادة التي ازدادت توهجا خاصة بعد عودة الأب واليوم أضيف إليها المزيد من الوقود.

      أصبح من الممكن الجلوس بصحبة " ُرقيـة " بجوار المنزل في أوقات الفراغ وإذا كانت الشمس دافئة فنخرج للتمتع بالطقس الجميل ونسمع من قريب أصوات أمواج البحر التي لا تهدأ.

     بعد ُمضى عدة أيام علي هذا الحدث جلست ملتصقا بـ "ُرقيـة " وأخبرتها بعزمى على مغادرة المكان عائدًا إلي القاهرة ، صمتت لفترة وظهر الوجوم على وجهها الأبيض البرىء متسائلة كيف هذا ولماذا وما سوف يصبح عليه حالها ، أخبرتها بأن هذا من ضمن خطتنا فأنا ضابط وليس راعى غنم وسوف أتوجه لعملى ، هناك أحصل على راتب مرتفع وأحصل على ترقية فى الرتب العسكرية وبعد التحرير أعود ونتزوج ، تساءلت وما المانع من أن ترافقنى لمصر؟ أجبتها بأن هذا صعب للغاية فالأرض محتلة والأعداء فى كل مكان وسوف تصبح رحلة التوجه للقاهرة فى غاية الخطورة ولا أضمن سلامتك وأنا رجل وهذا هو عملى ولو نلت الشهادة فهذا قضاء الله وقدره.

    لم يستطع تفكيرها أن يصمد أمام حديثى وظهرت عليها علامات الفزع وتبدل ضيقها إلى دموع ساخنة غزيرة ثم أسرعت تعدو إلى داخل الدار ، تبعتها بعد قليل وحين دخلت الدار شاهدتها تجلس بجوار أبى السعادات الذى بدا عليه أنه قد استطاع أن يهدئ من روعها ، رحب بى الرجل قائلا : "رجية" خبرتنى بالحجيجة وهذا تصرف سليم علشان تعيشوا على الصراحة مع بعض ، ثم أكمل حديثه قائلا:

ـ شوفى أمك عملت إيه وضحت بكل حاجه علشان تجبى جنبى ، عايزك كده جويه وتفهمي مصلحتك ومصلحة جوزك " وقد أسعدها وأسعدنى هذا اللقب الجميل الذى كنا ننتظر تحقيقه".

   قررت مغادرة المكان بعد أسبوع وخلال جلوسى وحديثى علمت الكثير من الدروب والوديان وآبار الماء من أبى السعادات كما نصحنى بالإبتعاد عن مدينة العريش لأنها  ُمتخمة بالقوات المعادية وبعد أن أبتعد عنها يمكننى العودة ثانية والسير بمحازاة الشاطئ حيث آنه أيسر وبعيد عن عيون الأعداء كما تتوفر قريبا منه بعض منابع المياه.

    صباح اليوم التالي وأنا أستعد للتوجه للعمل بعد أن تقرر أن نعد الأرض لزراعة نبات الشعير خاصة أن هذا موسم الأمطار وتحتاج الجمال والماعز والطيور لهذا النبات ، سمعت صوت موتور سيارة وبعض أصوات رجال نظرت باحتراس من أعلى فشاهدت سيارة جيب عسكرية إسرائيلية بها بعض الجنود بأسلحتهم ، شعرت بأنهم قد أتوا لتفتيش المكان وأنه من المحتمل أن الأعرابى الذى حضر منذ عشرة أيام وحمل محصول نبات الكرنب قد أبلغ عنى أو أنهم ألقوا عليه القبض فاعترف بما شاهد تحت ضغط التعذيب الذى يطال من تقع عليه عيونهم ، سمعت قائدهم يخاطب أبا السعادات بلغة عربية واضحة متسائلا ً: هل تأوى غريبا لديكم؟ .. تلعثم الرجل في بادئ الأمر مما دفع الجنود إلى اقتحام الدار للتفتيش حيث كنت أسرع منهم وقفزت من أعلى الدار أرضا كالهر النشيط واختبأت بعيدا ً بين أغصان جافة وكنت مازلت أراقب المكان المحيط بالدار.

    شاهدت الجنود يغادرون المكان وقائدهم يعيد تحذيره لأبى السعادات بأن إيواء أحد من جنود الجيش المصرى سوف يعرضه ويعرض أسرته لمحاكمة عسكرية ، غادروا المكان ؛ بعدها بقليل شاهدت الفتيات يسرعن في البحث عنى بمعاونة الكلاب حتي عثروا علىّ وكانت سعادتهم كبيرة خاصة حينما صعد أحد جنود الجيش الإسرائيلى لأعلى للتفتيش فتوقعت الأسرة بأنه سوف يلقى القبض علىّ وأتسبب لهم في مشاكل كبيرة.

    أخبرت الأسرة بأننى سوف أرحل مساء اليوم مبكرا موعد رحيلى عما سبق واتفقت عليه لأن هؤلاء الجنود سوف يأتون بعد يومين أو ثلاثة لشكهم بوجود غريب هنا .. حاولت " ُرقيـة " إثنائى عن هذا ولكن والدها وأمها أيدا هذا الاقتراح ؛ أصبح الوقت يفر من بين أيدينا مثل ما تفر المياه من بين أصابعنا ، طلبت العائلة من " ُرقيـة " التفرغ للحديث معى ولم يكلفها أحد بأى عمل وأنا أيضا أصبحت مشغولا سواء بوداع الحبيبة أو بالتفكير فيما أنا  ُمقبل عليه لكن ما باليد حيلة.

     قبل موعد رحيلى بساعات قليلة جلست بصحبة " ُرقيـة " على رمال البحر وقد ألقت برأسها على كتفى وأنا أشتم رائحتها وألتمس نعومة بشرتها بيدى وألاعب خصلات شعرها التى هربت من أسفل الشال الصوف التى تضعه على رأسها ، أثناء هذا وأمام مياه البحر مباشرة وخلفنا ضياء القمر الساطع بنوره يطل على المكان شاهدت خيالا لإنسان في مساحة المياه التى أمامى مباشرة ، كان شخصا يقف خلفنا مباشرة ولم نشعر به بسبب هروبنا من عالمنا القاسى إلى عالم خيالى جميل بعيدًا عن قسوة بني البشر ، تخلصت من ذراع " ُرقيـة " بهدوء ونظرت خلفى بسرعة متسائلا ً:

ـ أنت مين وعايز إيه ؛ تنبهت " ُرقيـة " على هذا الصياح وتلك الأسئلة لكن الشخص الغريب تساءل قائلا ً:

ـ أنت اللى مين وبتعمل هنا إيه وجاعد مع أختى كده ليه؟

     قفزت " ُرقيـة " تحتضن شقيقها "عيـــد" الذى كان قادما من مصر بعد تبادل الأسرى بين مصر وإسرائيل ، تعارفت على الشاب وتحدثنا ثلاثتنا وعلم من رقية بأننى خطيبها وسوف أغادر المكان منتصف هذا الليل ، تحركنا نحن الثلاثة إلى الدار ومجرد أن شاهدت زهرة ابنها أسرعت إليه وألقت بنفسها على صدره فقبلها ودموعه ترافق قبلاته وانحنى مقبلا يدها ثم شاهد والده فأسرع يقبل يده وأقبلت الفتيات وحصلن على حقهن من حب الأخ الوحيد ، هكذا كانت المفاجأة الثانية خلال أسبوعين بعد عودة الأب ثم عودة الابن ، جلسنا جلسة طيبة وخلال ذلك كانت " ُرقية" مشغولة بإعداد ما سوف أحمله معى من طعام وخبز وعبوة ماء من البلاستيك ، كما قص علينا "عيد" كيف حضر إلى هنا بواسطة سيارة لأحد البدو تركته على مسافة اثنين كيلومتر ثم أكمل باقي المسافة سيرا علي الأقدام ، تناولت طعامى رغم عدم حاجتى إليه كما طلبت منى الأسرة أن أخبرهم بكل جديد قدر الإمكان.

    هكذا سوف أترك هذا المكان القريب إلى قلبى والذى سيطر على عقلى لفترة طويلة بعثورى على إناس طيبين وقفوا إلى جانبى بالعلاج والمودة والرعاية واكتملت بقصة حب جميلة طيبة ، رافقتنى رقية مسافة السير وابتعدنا عن الدار وتشبثت بذراعى ونظرت إلىّ نظرات حزينة مؤثرة ولكنها دافعة إلى الحب ؛ قبلت رأسها عدة قبلات وكدت لحظتها أن أتراجع عن قرارى بالعودة إلى القاهرة فلقد قلب حبها كيانى واستبد بى العشق وكاد حبى لها أن يلقى بعملى ووظيفتى بعيدا وأصُبح فردا عاديا من أفراد الشعب أشاهد الحدث ولا أشارك فيه.

     تنبهت لمرور الوقت بسرعة ورقية مازالت متمسكة بى لا تشعر بالزمن أو بالطقس شديد البرودة ، ُكنت مثل إنسان يشعر أنه ُمقبل على شئ سيئ أو على عملية جراحية أو امتحان صعب ؛ لهذا فهو يشعر أن الانتظار صعب وأشد ألما من الحدث نفسه الذى ينتظر وقوعه ، كنت راغباً في ترك رقية وهمسات أنفاسها ورائحة تلك الزهرة الصغيرة الحبيبة والابتعاد بسرعة ولقاء العواصف والأنواء ، بكل صعوبة تخلصت من ذراعيها وابتعدت عنها ولكننى لم أتخلص بعد من مشاهدة دموعها وسماع نحيبها ، أسرعت الخطى بل هرولت وجريت حتى إبتعدت ولم أستطع مشاهدتها أو مشاهدة ظلها ورغم هذا مازال نحيبها يطن بأذنى يدفعنى إلى التفكير بالعودة ثانية ولكننى والحمد لله مازالت قادرًا على مواصلة السير تاركا هذا الحب الذى سوف أعود إليه مرة ثانية بإذن الله. 

 

رحــلة العودة بطريق مجهـول

 

    بعد أن ابتعدت عن المنطقة التى تقيم بها أسرة عم أبى السعادات مازلت أشعر بتأثير " ُرقيـة " على مشاعرى وأحاسيسى ، كنت أسير وأتحرك وأنا كلى آذان صاغية وعيون يقظة وأصبح الطريق أمامى سرابا بالليل فالمنطقة خاوية ليس بها بشر ولا حياة سوى سماعى لأصوات أمواج البحر القريبة منى ، التمست الراحة عند أقرب منطقة تكثر بها أشجار النخيل وأعتقدت أنها منطقة تحوى بعض مخلفات الحرب من معدات صدئة ومن سيارات ومهمات للجيش المصرى ، تخيرت مكانا مستترًا بعيدًا عن عواصف الليل الجامحة ولا شئ ُيسري عن نفسى سوى سماعى لأصوات الأمواج ومشاهدة السماء والنجوم لامعة الضياء بوسطها ، هذا دليل بأن البرد شديد واحتمال سقوط "البرد" وهى حالة مناخية تجعل من يسير فوقه يصاب بالتهاب بالجلد مثل الحروق رغم أنها ستارة من الثلج تسقط بفعل الندى البارد فتصبح علي هيئة ستارة من الثلج نظرا لانخفاض درجة حرارة سطح الأرض.

     أويت بداخل المهمات البالية وبعد قليل شعرت بالدفء يتسلل إلي جسدى الذى انخفضت درجة حرارته إلى شئ لا أستطيع وصفه فكنت أشعر بأن أطرافى كقطع من الحديد البارد بل تصلبت مفاصلى ، أويت إلى الثغرات بين تلال المهمات والقمامة وبعد أن شعرت بالدفء تسلل النوم إلى جفونى وغبت عن الوعى ولم أنتبه إلا على أصوات تتحدث العربية بلهجة أبناء سيناء ، استرقت النظر من بين ثغرات القمامة فشاهدت خمسة أشخاص يتناولون الطعام وقد أعد أحدهم "ركية مشتعلة" يقومون بتسخين الطعام عليها ، كان حديثهم واضحا وهم يتبادلون المعلومات عن المكاسب والمغانم التى حصلوا عليها خلال الشهور الماضية من تجارة مخلفات الحرب وما حصلوا عليه نظير ذلك من تجار حديد الخردة لإحدى الشركات الإسرائيلية.

قاطع أحدهم الحديث الوردى الذى ينصب على الربح متسائلا ً:

ـ هادى الأفعال اللى بنجوم بيها بنساعد العدو ، ليه مش بنفكر إننا نبعد عنهم ولو كنا أكثر حبا لبلدنا مصر ما فعلنا كل اللى فات وعملناه ، والله ده حرام وضد الدين.

حدثت مشاحنات لفظية وكلامية بين الشباب ما بين مؤيد وما بين معارض وكانت أصوات المعارضين لما فعلوه قليلة وارتفع صوت أحدهم متسائلا ً:

ـ إحنا من مصر ، جولى إيه العلامة؟ شوف يا أخى كيف بيتصرف معانا رجال البوليس لما نحاول نروح مصر ، والله بأشعر أننا من بلد تانى ومش مصريين ، حد يجول كده أن تفتيش في الجنطرة شرج وهات يا سؤلات والكل معتجد أننا مهربين مخدرات ، بالله عليك يا شيخ دور حديت تانى وسيبك من كلام الراديو اللي خوتنا بالوطنية والعروبة ، الوطنية أنه يكون في جيبك مصارى تفيدك.

ـ لا يا شيخ ما تجول هذا ، دى خيانه وبكره الحكومة المصرية تعرف باللى بنعمله وحتودينا في ستين ألف داهية ، أنت مش علمت إيه ُحصل مع العصابات اللى نهبت الجطر إللى كان فيه مرتبات الجيش أيام الحرب السنة الماضية ، شوف عملوا إيه وجامت المخابرات الحربية وجت لهم وسط الجبايل اللى عايشين فيها وطختهم كلهتيهم بالنار ومحدش عرف يجف جدامهم لا يهود ولا الشيوخ بتوع الجبايل ، بلاش اللعب بالنار.

ـ روح لحالك وبلاش تعمل علينا بطل ، مش عاجبك أهو أنت لميت فلوس كتير وكفايه عليك كده.

ـ طيب إحنا مش متفجين وكل حى يروح لحاله .. السلام عليكم.

     وهكذا غادر الشباب المكان وقد تفرقوا فانقسموا قسمين ، ثلاثة مع الإسرائيليين واثنان ظلا جالسين بمفردهما ينعيان ما قاما به ضد بلدهم لصالح العدو.

     فكرت قليلا .. هل أظهر لهم أو أظل قابعا فى مكاني هذا؟ لم أجد الشجاعة لمواجهتهم فهم مسلحون وقد يطلقون علىّ النار دون تفاهم وكان لحديثهم بقية حيث تحدث أحدهم:

ـ إيه رأيك يا حسين نعمل غارة على دوريات المرور بتاعة اليهود

ـ إحنا ملناش خبرة بالحاجات دى يا عمر ودية عايزه واحد فاهم الحاجات دي

ـ حنجيبه منين؟

ـ علمى علمك .. سيبها لله

ـ ونعمة بالله .. جوم ياراجل نصلى الصبح جبل ما الشمس تظهر وتضيع منا الصلاة.

نهض الرجلان وقام أحدهم يدعو إلى الصلاة " الله أكبر الله أكبر .. حى على الصلاة حى على الصلاة .. قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة .. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله".

لم أشعر سوى أننى نهضت ُمسرعا وفتحت عبوة البلاستيك التى كنت أحملها وتوضأت بقليل من الماء حتى لا أفقده بالإضافة إلى برودته التى كانت أقرب إلى قطع ثلج سائلة .. انضممت إليهما وهما يؤديان الصلاة .. شعرت بأن الشاب ألذى أقف بجواره اضطرب ولكنه لم يترك الصلاة .. أتممنا الصلاة والتفت الشاب الذى قام بدور إلإمام للخلف لزميله فشاهدنى فصدرت منه كلمة الله أكبر .. رددتها خلفه ومددت يدى مصافحا الاثنين .. حرما .. تلعثم كل واحد وهو يرد على حديثي معهم.

     جلس الاثنان في مواجهتى ينظران إلىّ نظرات خائفة مضطربة .. رغبت بأن أدخل الاطمئنان إلى قلوبهما .. تحدثت إليهما قائلا ً:

ـ أنا سمعت كل كلامكم مع بعض والحقيقة أنتم الاتنين ربنا ح يكرمكم لشعوركم نحو البلد .. أنا مبسوط أنى أسمع من الشباب السيناوي أنه عايز يعمل حاجه ضد الجيش الإسرائيلى.

قاطعنى أحدهم:

ـ لا  .. لا .. سيبك من الحديت الفاضى ده .. ده كلام يا شيخ

ـ أنتم خايفين منى؟ يعنى مش خايف من العدو وخايف منى .. يظهر أنى غلطت لما حسيت إنكم وطنيين وبتحبوا بلدكم .. تحدث الشاب الآخر:

ـ الحجيجة اتفاجئنا بيك وجلنا يمكن تكون من العدو!!

ـ يا راجل هو العدو عايز يستخبى .. ما هو ظاهر لنا كلنا .. على كل حال .. أنا واحد من الجيش المصرى ومعرفتش أرجع وأنضم لباقى الجيش وقضيت المدة دية عند ناس طيبين عاملونى أحسن معاملة وإللى الإسلام أمرنا بيها .. ولما عرفت بنوايكم الحسنة قلت أنضم لكم.

ـ يعنى تعرف تجهز بارود ومفرجعات ضد الملاعين دوول؟

ـ ايوه بس لو توفرت الحاجات المطلوبة .. يعنى مفجرات .. فتيل اشعال .. صوابع جلجنايت.

ـ يعنى إيه الصوابع اللى بتجول عليها؟

ـ صوابع ديناميت .. تسمع عن الديناميت

ـ أيوه أمال وشفتها وشفت كل الحاجات إللي بتجول عليها.

ـ فين؟

 نهض الاثنان واتجها أسفل بعض المهمات التالفة وأخرجا منها عدة صناديق خشبية قرأت عليها اسم المصانع الحربية المصرية المصنع الحربى رقم ..... فتح أحدهم صندوقا وشملتني الدهشة حيث كان يحتوى على مجموعة من المفجرات التى تعمل بالفتيل المشتعل وليس بالكهرباء وأسعدنى هذا ثم توجه لعلبة كبيرة من الصاج وفتحها حيث كان الصدأ قد غلفها من الخارج وبعد مجهود قام بفتحها فشاهدت بكرة كبيرة من حبال البارود سريع الاشتعال ، أسعدنى هذا .. تساءلت : أين الديناميت؟

   تبادل الإثنان النظرات وكل يذكر الآخر أين شاهدا الديناميت ووصلنا إلي نتيجة أنهما لا يتذكران أين شاهدا الديناميت حيث كان هذا منذ فترة طويلة .. سألت أحدهم:

ـ إيه خطتكم للعمل ضد اليهود؟

ـ تبادل الصديقان المعلومات وكيفية الهجوم علي الدوريات الإسرائيلية.

سكت ولم أتحدث وشعر الشابان أنني غير مهتم بهذا ولكننى أخبرتهما بأنني أفكر كيف نقوم بعدة عمليات لا نقع فيها أسرى بيد الأعداء .. تحدث أحدهم قائلا ً:

ـ إيه رأيك يا دفعه ندمر أسلحة الجيش المصرى اللى اليهود استولوا عليها؟

      كانت الفكرة جديدة على شخصى ومهمة في الوقت نفسه ، طلبت منهما إعطائى بعض المعلومات فتبادلا طرح المعلومات أمامى ورغم أن معلوماتهم لم تكن واضحة لكننى شعرت من خلال حديثهما بأن هناك تشوينا ًلأسلحة الجيش التى ُتركت حين تم تنفيذ أمر الانسحاب تحت تأثير الضربات الجوية للعدو ولم تستطع القوات المصرية العودة بها حيث قال أحدهم :

ـ كل مسا حة ح نلاجى مدافع ودبابات والجنابل بتاعتها مجمعه ومش عليها أى حراسه .. ليه؟ لأنه من كام شهر جم الفدائيين المصريين بتوع الصاعقه ودمروا بعض الأسلحة وكان عليها حراسة ويهود كتير ماتوا فيها علشان كده َبعدوا الحراسه وكل كام ساعة تيجى طياره هليكوبتر تطل طلة علي المكان وَتعود.

ـ يعني فيه مكان هنا قريب فيه أسلحة؟

ـ أيوه .. حوالى عشرين كيلو فيه منطجة السبخة ونزلت فيها الدبابات المصرية والمدافع الكبيرة علشان اليهود ميعرفوش يخدوها إلا بالعافية .. وفعلا اليهود لحد دلوجتى مش عارفين يطلعوها من السبخة

ـ ده هدف ممتاز وسهل .. إمتى نتحرك؟

ـ بالليل .. السواد زين عشان ما حد يلاحظنا

ـ نقرا الفاتحة .. نجرا الفاتحة ... ولا الضالين آمين

      هكذا أرسل الله إلىّ باثنين من البدو وهما "حسين وعمـر" لهما الرغبة في الانتقام من العدو وسوف أعمل معهما .. بخبرتى كرجل عسكرى وهما بخبرتهم في أودية وتضاريس سيناء الواسعة .. اختبأنا بعيدا ً عن مكان المهمات حتى لا يقبل أحد راغب بالحصول على بعض المهمات ويشاهدنا ، بعد أن حملنا صندوق المتفجرات وَبكرة الفتيل ونحن سائرون تساءلت: هل يوجد مع أحد منكم "كبريت" نفى الاثنان هذا وتساءل أحدهم عن سبب هذا وهل لأنني مدخن .. أخبرتهما بأننى مدخن ولكن منذ الحرب لم أدخن سيجارة بسبب ندرة وجودها .. توقف أحدهم متسائلا ً:

ـ تنفع الولاعة؟

ـ كدت أن أصرخ به .. أجبته أيوه ماهى زى الكبريت .. ناولني الولاعة وقمت باختبارها فلم تعمل حيث إنها تحتاج إلى بنزين وقد فرغ منها حيث أخبرنى "حسين" بأنه عثر عليها قريبا من جثث بعض الشهداء وقد مضى عليها وقت طويل ، المطلوب الآن كبريت أو بنزين لملء الولاعة .. أجابنى أحدهم بأن بمنطقة السبخة لوارى كثيرة وسوف نعثر بداخلها على البنزين.

     تحركنا سيرا طوال الليل وقبل بزوغ الفجر شاهدت المنطقة التى تحدث عنها الشابان .. كان بها حوالي عشر دبابات والعديد من قطع مدفعية الميدان المصرية بأعيرة مختلفة وبالقرب منها توجد مقبرة جماعية للشهداء المصريين الذين ماتوا قريبا من هذا المكان حيث قام بعض البدو بمواراتهم التراب ، توجهت باحتراس إلى اللوارى ومن أول لحظة تبين لى أن ليس بها بنزين لأنها تعمل بالسولار ، لقد أصبح الوضع سيئا وكيف نعثر على بنزين؟

     كان بأحد اللواري بعض القنابل اليدوية الدفاعية وهى قنابل شديدة الانفجار وهالكة .. أسرع إلىّ أحدهم يخبرنى بأن دورية إسرائيلية تستقل سيارة جيب قادمة فى اتجاهنا ، لا أعلم السبب الذى جعلنى أسُرع بالاختفاء ومعى الصديقان بين أطلال المدافع وكنت أحمل أعدادا من القنابل اليدوية وسألتهما هل تستطيعان استخدامها؟ كانت الإجابة بالنفى وطلبوا منى أن أدربهما على كيفية الاستخدام وأخبرتهما بأن هذا ليس بالوقت المناسب.

      توقفت سيارة الدورية أمام منطقة تشوين الدبابات والمدافع التي نختبئ بينها ، هبط منها جنديان وضابط هم كل أفرادها بالإضافة إلى رابع يرتدى الملابس المدنية ، ساروا في اتجاهنا ، كان الحديث يدور بينهم باللغة العبرية ومنه علمت أن الرجل المرافق للدورية يعمل مقاولا لرفع حطام المبانى والسفن الغارقة ، شاهد الرجل المكان واقتربوا منه أكثر لمعاينة عدد القطع خاصة أنه أخبر الضابط المرافق بأن الشتاء ساعد على ثبات الأسلحة بمنطقة السبخة وأنه سوف يقوم بعمله حين قدوم فصل الصيف كما أبدى ارتياحه لرفع ونقل الأسلحة إلى ميناء يافا الإسرائيلى.

     انتهى المقاول من المعاينة واستعد رجال الدورية لمغادرة المكان ودفعنى "حسين" مشيرا لى بأن أقذفهم بالقنبلة اليدوية ولم أكن أنتظر توجيها منه ولكننى كنت أخشى أن أقذف القنبلة من هذا المكان القريب وقد تؤثر علينا نحن الثلاثة وقد تصيبنا بعض الشظايا المتطايرة ، أشرت لهما بالانبطاح أرضا فأسرعا بالتنفيذ ، نزعت تيلة الأمان وألقيت القنبلة على أفراد الدورية التى إنفجرت بعد بضع ثوان خاصة أن  الإسرائيليين شاهدوا سقوط القنبلة بجوارهم فأسرعوا بالهرب ولكن القنبلة إنفجرت وسمعت بعض صيحات الاستغاثة ولكن الشئ السيئ والذى لم يكن في الحسبان ولم أعمل حسابا له أن تأثير انفجار القنبلة كان طفيفا حيث امتصت الأرض اللينة التى تشبه الأرض الطينية قوة الانفجار فلم يصب سوى شخص واحد وبالتالى واصلت قذفهم بالقنابل اليدوية مما دفع بعض الجنود لإطلاق النار علينا .. هكذا تم اصطياد تلك المجموعة بالقنابل اليدوية وكان الغرض من هذا ملء الولاعة بالبنزين من السيارة الجيب ولهذا لم أقذف القنبلة عليهم إلا بعد أن غادروا السيارة حتى لا تنفجر ولا نحصل منها على البنزين المطلوب.

       سقط أحد الشباب شهيدا ، إنه "حسين" فقد أصابته إحدى الرصاصات حينما هم برفع رأسه لمشاهدة المعركة .. حملنا الشهيد إلى خارج المنطقة وبسرعة طلبت من "عمـر" ملء الولاعة من تنك بنزين السيارة فأسرع للتنفيذ وهو يخبرنى أنه تدرب على هذا العمل مرات عدة ، حيث كان يعمل صبى ميكانيكى في صغره حيث قام بسحب خرطوم البنزين الواصل للموتور ودفع بمقدمته بداخل الولاعة التى ملئت فى أقل من ثانية ُكنت خلالها قد نزعت طبات " مفجرات دانات المدافع الطرقية والتى تنفجر بأى جسم بمجرد الاصطدام به" وضعت المفجر الصغير الذى يعمل بفتيل الاشتعال بديلا عن الطبة وقطعت جزءًا من حبل المفجرات ووضعته بالمفجر .. انتهيت من عمل أربع مجموعات تفجير بحيث تصيب كل المنطقة ، وبكل دانة وضعت بها مفجرًا وقمنا بتجميع عدد من الدانات حول الدانة التى بها المفجر حتي يحدث انفجار شديد متأثرًا بالموجة الانفجارية بالدانة التى انفجرت.

       سحبت البكرة بعيدًا عن مخزن الأسلحة المصرية المراد نسفه وقطعنا الطريق الأسفلت من الجانب الآخر وأشعل "عمـر" الولاعة وناولها لى  ، لمست بها أول طرف الفتيل الذى اشتعل بسرعة مما دفعنا للجرى بأقصى سرعة حاملين معنا باقي المتفجرات وبكرة فتيل المفجرات .. لم أعد أدرى ما حدث ولم أعد أشاهد أى شئ فقد سمعت انفجارًا رهيبا وشعرت بأن جسدى سابحا في الهواء وأنا ممسك بصندوق المتفجرات والحمد لله بأنه لم ينفجر بعد اصطدامى بالأرض.

    أفقت على سحابة دخان كثيفة بأسفلها لهيب ولكن الانفجارات تجددت ثانية .. طلبت من "عمــر" أن نسرع بالهرب .. أسرعنا للهرب فى الاتجاه المعاكس للانفجارات أى بداخل منطقة السبخة ؛ حيث سيصل اليهود بعد قليل حينما يشاهدون السيارة الجيب وبجوارها الجثث ولكن الانفجارات طالت السيارة والجثث التي تفحمت تماما بما فيها جثة الشهيد "حسين" الذى كان برفقتنا وصاحبنا للجهاد وضرب الأعداء.

    اختبأت بداخل الأحراش مع صديقى البطل والذي أخبرني باسمه ولكنني نسيته في غمرة الأحداث حيث أعاد قوله بأقولك "عمر" لما تنسى افتكر سيدنا عمر مع الفارق بين النملة والأسد ، شكرته وأخبرته بأنه أسد مثل الفاروق عمر ، أخبرني "عمر" بأن اليهود سوف يشاهدون آثار أقدامنا على أرضية السبخة ، أصابنى التوتر والارتباك  لسماعى هذا وما العمل ولكن من ُحسن الحظ أننا سمعنا وشعرنا بمياه تتحرك أسفل أقدامنا فقد أحدث الانفجار حفرة عميقة جعلت مياه البحر تتدفق إلى تلك المنطقة فأزالت كل أثر لأقدامنا وما علينا سوى الهدوء والانتظار.

     طال الانتظار وقررنا التحرك ولكن طائرة هليكوبتر أقبلت وشاهدت بقايا الانفجارات وبعض آثار حريق مازالت مشتعلة ، بعد عشر دقائق أقبلت قوة عسكرية إسرائيلية وتفقدت المكان وراقبوا بنظارة الميدان المنطقة المحيطة بموقع الإنفجار تساعدهم في ذلك الطائرة  من أعلى ، كانت المراقبة تتم لمناطق ومسافات بعيدة ونحن قريبا منهم بحوالى خمسمائة متر لأنهم توقعوا أن من قام بهذا العمل أسرع بالفرار ومغادرة المكان منذ فترة طويلة ؛ حيث تأكد لهم بأن هذا الانفجار وقع منذ أكثر من ساعتين لهذا ظلت المراقبة لعلهم يصلون للمتسبب الذي قام ونفذ تلك العملية ، أخيرا توصلوا لسبب الانفجارات وأن السبب الرئيسي والمؤكد هو توغل رجال الدورية وسط المتفجرات مما أدى إلى حدوث انفجار بالمكان.

      غادرت القوات المكان قبل الغروب وطوال هذا اليوم كانت ملابسنا مبتلة من اندفاع مياه البحر إلى داخل أرض السبخة كما ألم بنا الجوع والعطش ومازال الخوف من المجهول قائما ، في الليل غادرنا المكان بعد أن شملتنا الفرحة والبهجة والتى غطت على احتياجاتنا من الطعام والشراب بل لم نعد نشعر بالآلام والأوجاع التى كنا نشعر بها من قبل لما تم بحمد الله مما دفع "بعمر" لعناقى مهنئا مصمما ًعلى مرافقتى إلى كل مكان وهكذا مضى اليوم الثانى بعد فراق عائلة أبى السعادات وقمت بسداد جزء من دين علىّ وعلي أسرتي لمصر الحبيبة.

     كنا نسير ليلا وتغوص أقدامنا فى منطقة السبخة المشابهة للأرض الطينية لكنها ملحية ، أخذ الإرهاق منا جهدًا كبيرًا حتى وصلنا إلى الأرض اليابسة الجافة .. نطق "عمر" قائلا الحمد لله .. سألته ماذا بعد هذا؟ ضحك من حديثى قائلا: عشوة حلوة ونومة هنية .. ضحكت من كلماته التى صاغها ليرفع بها روحى المعنوية رغم أن معنوياتى مرتفعة للغاية لما حدث منتصف هذا النهار ، واصلنا السير وشعرت بأن أقدامي تيبست من البرودة والمياه المالحة .. نظر إلى "عمـر" قائلا:

    خليك ورايا لحد ما تشوف الوعد اللى وعدته لك .. سرنا بداخل وادى ضيق وفي أحد الأجناب حرك صخرة كبيرة لا أعرف كيف حركها ، كانت تغلق مدخل كهف تبعته وليس لى خيار آخر ، طلب منى المساعدة فى غلق الكهف بتحريك الصخرة لنصف الفتحة واستكمال غلق باقى الفتحة ببعض الصخور بداخل الكهف  .. الظلام يعم المكان .. أخرج الولاعة فأضاءت المكان واتجه إلى فانوس من فوانيس الجيش وأضاءه ثم شاهدت بعض البطاطين فنزعت الحذاء البالى القديم من قدمى والذى حصلت عليه من منزل أبى السعادات حيث كان يرتديه أحد الشهداء العام الماضى .. التففت بالبطاطين وأسرع "عمـر" وأحضر بعضا من معلبات الجيش المصرى وقام بفتحها ووضعها في إناء ألومنيوم يخص الجيش أيضا وأحضر وقودا ًجافا ً" الوقود الجاف يستخدم في الجيش لتسخين الطعام في المواقع وهو عبارة عن قرص أبيض في حجم قرص الطعمية المتوسط ومشابه للقشاط المستخدم في الطاولة وإشعال بسيط بأحد أطرافه فيشتعل ويخرج منه لهب أزرق رائع دون دخان ويمكن أن يستمر القرص الواحد لأكثر من خمس دقائق كافية لتسخين طعام الجندي".

     أدخل الضوء والدفء وكل ما قام به "عمـر" الراحة إلى نفسى فخلدت فى نومى وتنبهت على صوته وهو يقدم لى الطعام المكون من المكرونة الإسباجتى بالصلصة والفاصوليا البيضاء باللحم ، ُكنت في دهشة رغم أننى تناولت هذا الطعام حينما كنا نقوم بتدريبات خارج المعسكر لكن فى هذا المكان وتلك الحالة فالوضع كان مفاجئا لى بكل المقاييس .. تناولنا الطعام وأعقبها تقديم قطعة من الحلوي من المستخدمة بالجيش أيضا ويطلق عليها اسم "فولية" عبارة عن لوح مشابه لألواح حلوي مولد النبيّ ولكنها مكونة من العسل وبداخله حبيبات السوداني الجافة والمغلفة بالسلوفان ، أخرج زمزمية بها ماء أخبرني أنها منذ أسبوعين .. تناولت منها بعض الجرعات وكانت باردة وطعمها مستساغ ، حمدت الله وخلدت في نوم عميق.                

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech