Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

رحله الصقر حازت على المركز الاول مكرر فى مسابقه القصه القصيره لعام 1975

 

بقلم محمد حسن الشرقاوى

رحلة الصقر

 

          فى آخر زيارة له قال لى: لا تنس أن تزور خالدا، أو مأت برأسى وأنا أشاهد الكآبة التى تفيض بها ملامحه المتناسقة فى رجولة، وقلت: “هكذا أنتم يا رجال الجيش تحملون الدنيا فوق رؤسكم ولا تحاربون” … جردنى من كل شئ بنظرة قوية غريبة حولتني الى طفل بلا تجربة، خرج صوته عميقاً: ربما نحارب وابتسم ابتسامة أتلفتها المسئولية.

        قدمنا له الكنافة فاعتذر، وضعنا أمامه الرطب فأكل نصف واحدة واعاد النصف الثاني الى الطبق، شرب نصف كوب من الشاى، قال لأمي:

-       هل تدعين لى؟

-       من كل قلبى يا حبيبى

-       هذه المرة غير كل المرات

سألناه عن سبب تجهمه، انتحل عذرا واهيا بأنه متوعك هذه الليلة، ودعنا وذهب، ثم عاد لوداعنا مرة ثانية وثالثة متحججاً بأشياء تافهه، لم نفهم شيئا وان لفنا صمت حزين بعد رحيله..

وخرج يحمل قلبى معه فاستعيد فى أذنى وقع خطاه وصوت محرك السيارة الجيب والسائق يديرها بعد أن يؤدي له التحية العسكريه ويفتح له الباب،وتستعيد زراعاى ملمس جسده..وأنا احتضنه واقبله وقت رحيله.

كان هو أخى الأكبر، وهو مصدر المعرفة والدليل الذى يقودني إلى العالم الخارجى بعد وفاة أبى ونحن أطفال، وكثيرا ما كان يتهرب منى يعدني بأنه سيأخذني معه بعد قليل فلا أطمئن وأتعلق بأذيال ثيابه وأبكى حتى يصطحبنى إلى حيث يذهب واحيانا كان يخيفني – وهو يلف نفسه بالبطانية ويدهن وجهه الطفولى بالأسود من قاع الحلة النحاسيه- حتى اتركه لاذهب الى امى ، لكنى كنت شديد التعلق به فأرمى نفسى فى شبح العفريت الذى يتقمصه وانا ابكى معاتبا، فيحتضننى فى رقه ويعود لانتحال الاعذار قائلا بانه سيأتى فى الحال.

 بعد أيام من رحيله بدأت الحرب، تلهفت على معرفة أخباره، حاولت أن أتصور، مكانه بين المقاتلين على الخريطة، سمعت أن صواريخه كانت مفاجأة للعدو وبأنها أحدثت فى الطائرات المعادية خسائر جسيمة، لم أتصور أبداً أنه لن يعود، كانت الحياة تتدفق من كل حركاته .. يشيع المرح فى اى مجلس، له افكار يدافع عنها دائما فى حماس ولباقة، يحب الناس وتحبه الناس..

وحين وضعت الحرب أوزارها جاء ضابط برتبة مقدم يحمل شهادة مكتوب فيها بأن المقدم الشهيد أحمد قد أبلى بلاء حسنا، وأنه استشهد يوم 18 أكتوبر سنة 1973 قرأت الأسم كاملاً ، حاولت أن أترجم الكلمات التى تدل على الأسم الى شكل يقف فى مخيلتي، عجز تصورى عن فهم مغزى ما حدث، فكل ما اعرفه أن أخى قد خرج وما زلنا فى انتظار عودته…

قفزت أمي، وصفقت كالمنتشية من هول الصدمة حتى حسبتها تقهقه ثم رقدت فلم تتناول طعاما أو شراباً طوال ثلاثة أيام بل فقدت النطق أسبوعاً كاملاً. وفى اليوم الثامن رأيت الدموع تنزف من عينيها بغزارة وقد صارت فى شحوب الموتى وسمعتها تهمس فى نبرة تحمل كل ألم المأساة: “يا كبدى”…

وفى ليلة جاء رئيس عمليات الكتيبة (671) د/ف التى كان أحمد قائدها يحمل الأشياء الشخصية وخاتم الزواج … اقتربت منه:

-       أنا أخو سيادة المقدم أحمد … لكن أرجوك … قل لى كيف استشهد؟

-       فى غارة طيران .. حدث تفريغ هواء من انفجار قنبلة.

-       لم يصب من الخارج؟

-       نعم

-       كان سليما تماما؟!

-       نعم

-       هل تكلم بعد الحادث؟

-       بضع عبارات .. نقل بعدها الى مستشفى ميداني..

-       ماذا قال؟

-       يوصيكم بخالد ونهلة خيرا … ويرجوكم أن تسامحوه لعدم عودته..

 

غادر رئيس العمليات المنزل فترة قصيرة، دارت آلاف علامات الاستفهام فى رأسى حول الحادثة نسيت أن أسأله هل رأى دموعاً فى عيني أخى بعد اصابته وهل كان يتألم بصوت مرتفع، أم أن ثباته الذى كان يتمتع به قد لازمه حتى فى اللحظات الأخيرة.

سمعت ازيزا يأتي من أعماقى، شاهدت سرب طائرات معادية يشق جدران خيالى يقترب السرب فى شراسة من صواريخ أخى المحملة على مجنزرات، أنطلق صاروخان له أصابا طائرتين، ارتطمت احداهما بالأرض والدخان يتصاعد منهما، بينما انفجرت الثانية فى نهاية شريط الدخان البرتقالى الذى صعد اليها من الأرض، ألقت طائرة ثالثة حمولتها لتهرب من أرض المعركة، كان الانفجار شديدا وقريبا من أخى وهو يقود كتيبته، سقط على الأرض، نزفت الدماء من فمه تقلصت ملامحي، هرولت اليه وسط دخان المعركة، احتضنته وأنا أتضرع الى الله أن ينجيه .. نطق بضع كلمات “أوصيكم بخالد ونهله خيرا .. سامحوني لأني لم أعد”. انهرت وأنا أراه يسلم الروح بين ذراعي ولا أثر لإصابات فى جسده .. وكان الانفجار داخليا شعرت بآلام حادة وأنا أضع نفسى موضعه.

شردت عقب فترة بكاء دون ان يستقر ذهنى على شئ بعينه، وسمعت سرب الطائرات يأتي من جديد وأخى يقف وسط الميدان يعمل فى همة، صرخت بكل قوتي حتى لفنى دوار من شدة النداء : أحمد … أحذر طائرات العدو … أحمد … وفى ثوان سقطت طائرتان وأصابت الثالثة أخى .. وأنحنيت عليه بين كثافة الدخان محاولا التعرف على جراحة فوجدته سليما من الخارج حمدت الله لكنه فارق الحياة بعد أن أوصاني على ولديه الصغيرين ، لطمت وجهى، وتطلعت الى السماء معاتبا …

وفى المأتم تكومت خائر القوى على مقعد جانبى، حاول الناس أن يجعلوا منى شخصا قويا يقف لتقبل العزاء فلم يفلحوا0

تسلل إلى سمعي صوت ضابط يقول لمجاوره بأن محطة الرادار وقعت فى حفرة، أمر قائد اللواء باحراقها لكن المقدم أحمد أصر على العودة بها أثناء التحرك .. وعندما كان يحاول جرها بمدرعة أصابته دانة مباشرة عيار 155م، وثبت من فوق مقعدى بطريقة لفتت أنظار الناس، سألت راوي الحكاية:

-       أين أصيب؟

-       اهدأ .. وأين نحن ذاهبون؟

-       أين أصيب؟.. أريد أن أعرف

-       شاظية هنا

-       أوه .. فى الكبد .. هل بكى؟

-       لا

-       قل الحقيقة

-       أنا أقول الحقيقة

قبل الحرب يا حبيبى كنت أشعر ان شخصا ما طعننى هنا فى نفس المكان طعنة عميقة مزقت كبدى – نعم هذه الرواية أقرب الى الواقع

كنت أحس بشئ كالخنجر ينام فى كبدى أينما ذهبت يا حبيبي وطالما وضعت راحتى على بطني كأنى أحميها من ضربة متوقعة، أنهرت كالمهدم على الكرسى.

مشى أخى معتدا بقامته العسكرية الممشوقة القى تعليمات لضباطه وجنوده أخذ معه جنديا واحدا وسار فى طريقه الى الحفرة التى سقطت فيها محطة الرادار التوتر والقلق والاجهاد تشع من العيون، لاحت الحفرة للنظر، التهمت شفتى .. وكورت قبضتى .. “أرجع يا أحمد .. أنت أغلى من قطعة سلاح، كلنا فى حاجة اليك، خالد ونهله وأمك وأنا .. وكل الناس،

 سيعيش من بعدك الكثير من الخونة والقوادين واللصوص والجهلة والجبناء وعديمي الاخلاق، اتركها، مصر كلها فى حاجة اليك، ارجع، الصحراء شاسعة كأنها بلا نهاية .. حدقت فى أثر أقدامه على الأرض : “أحمد (ارجع) أمسكني رجل من المعزين : “الصبر يا بنى .. نحن مسلمون” أصابني الخوف من لمسة يده على غرة بينما أعيش فى مٍأساتى، وأدركت أنى كنت أفكر بصوت مسموع ثم هززت رأسى.

ذات ليلة سمعت شخصا يناديني من الخارج، نظرت من البلكونة وجدت جندياً، أشرت له أن يدخل، ولما ولج الباب سألني:

-       هل تعرفني؟

-       آسف …

-       أنا عبد الرازق

نسيت لما جئنا بالسيارة الجيب آخر مرة؟ أنا السواق

انهمرت الدموع من عيني، تشنجت أصابعى وهى تقبض على وجهى، سمعته يهدئ من حالتي:

-       لو كنت أعرف أن ذلك سيؤلمك لما أتيت

تطلعت اليه مستنكرا قوله: 

-       لا يا عبد الرازق … والله أريد رؤيتك منذ مدة طويلة .. أريد أن أعرف كيف أستشهد أخى.

-   المحطة وقعت فى حفرة، لم يكن هناك ونش نستعين به على أخراجها .. استخدمنا مدرعة لجر محطة الرادار ودخل سيادة المقدم ليقطر المحطة لكن سائق الدبابة شد قبل أن يخرج سيادة المقدم.

-       قتلة متعمداً؟

-   لا .. كان طيران العدو مكثفا وقتها، أراد أن يتحرك بسرعة قبل أن تصيده الطائرات بسهولة .. وضعت وجهي فى راحتى:

-       أوه داست العجلات على صدره ..

-   لا .. سقط على فخذه فانكسر العمود الفقرى المنى ظهرى بشدة .. تكلمت بصوت مخضب بالدموع:

-       لماذا لم يأمر أحدا بعمل هذا .. ألم يكن هناك جنود؟

-   كانوا كثيرين لكنه كان متحمسا .. صدقني لم أر شخصا يحارب غيره .. كان يطلق الصاروخ ثم يتابعه بالمنظار حتى يشتبك مع الهدف فيرفع المنظار عن عينيه فنعرف أن طائرة معادية قد سقطت. ونحن لا نفعل شيئا الا عند التحرك من موقع لموقع.

-       أسقطتم كم طائرة؟

-   فى يوم واحد أسقطت الكتيبة 13 طائرات مع أن الطائرة الواحدة ثمنها أكثر من ثمن كل السلاح الذى فى الكتيبة.

-       من الذى تولى قيادة الكتيبة من بعده؟

-       رئيس العمليات .. أسمح لى أن أنزل فليس لدى وقت، سأتى مرة أخرى فى زيارة أطول.

-       سأنتظرك

-       سآتي

-       مع السلامة

خلوت إلى نفسى، ترامت الصحراء أمامي. رأيت أخى يطلق صاروخا ثم ينتصب واضعا منظارا فوق عينيه ليشاهد ما يدور حتى حدث انفجار مروع فى السماء، قفز طيار بالمظلة، جرى كثير من الجنود ناحيته بينما أمسك أخى المنظار فى يده وكله سعادة جادة وصاح مصدرا تعليمات لرجاله بالتحرك من الموقع بعد أن أسقط عددا من الطائرات المعادية. قبل نصف ساعة تحركت الكتيبة لتعد كمينا لطائرات العدو فى مكان آخر، وفى الطريق وقعت محطة الرادار فى حفرة .. أمر آخر رئيس العمليات باستمرار التحرك وقال بأنه سيأتي اليهم بعد أن تخرج المحطة.

أشار لسائق مدرعة أن يقوم بمناورة تمكنه من شدها، دخل أخى بين المدرعة والمحطة ممسكا سلكا ليقطر به المحطة، طحنت أسناني من شدة الانفعال، قلت من خلال أسنانى الملتحمة ببعضها: “أحمد .. أحمد .. اخرج مر أى جندي يقطرها ، عجلاتها .. أحمد” وصرخت حين دار محرك المدرعة وجذب المحطة ليتحطم أخى تحت العجلات ..

أجهدت ذهنى أنا أستعيد تصور الموقف .. محاولا ايجاد مخرج له، أرتد خيالى خاسئا وانا أبكى.

ذهبت لزيارة ابنه خالد حسب وصيته .. كان شديد الشبه بأبيه كأنه صورة مصغرة، تأملت فى عيونه وكل ملامحه وأحسست براحه كأني أرى أخى.

رأته أمي حين أخذته معى اليها فبكت وهى تحتضنه، تبلل وجهه بدموعها وهى تقبله، انفلت منها ولعب لعبة الحرب صانعاً من يده مسدساً، يخرج من فمه أصواتا يقلد بها أصوات الطلقات، قالت أمى أنه مثل والده تماما ثم روت عن أبيه حكايات مضحكة كان يفعلها وهو صغير فى عمر خالد، ضحكت أمي حتى فقدت توازنها، ضحكنا معها لعبثه الطفولى الجميل.

ثم انفجرنا فى بكاء طويل،،

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech