Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

قائد ملحمة كبريت الأسطورية

 

 

يكتبها اليوم :- جمال الغيطانى

جمال الغيطانى

< «ننسي أن أجيالاً ولدت بعد أكتوبر وتقترب الآن من الخمسين، لا تعرف شيئا عما جري، لا تعرف الاحداث ولا الرموز، تلك محاولة لاحياء الذاكرة الوطنية بذكر شهداء عظام».. <

 

 

 


يمكن القول إن التاريخ العسكري لمختلف بلدان العالم لم يشهد ظروفاً حوصرت فيها قوة عسكرية في ظروف مماثلة لتلك التي جرت في كبريت، حيث قاوم اكثر من اربعمائة مقاتل مصري تواجدوا في موقع لا تزيد مساحته كلها عن كيلو متر مربع، وفي ظل ظروف بالغة القسوة، حيث انعدم القوت والمدد تقريبا، لمدة مائة واربعة وثلاثين يوما، ولم يستسلم مقاتل واحد، برغم كل الواقع القاسي والجوع، والظمأ، وظروف الحصار، وستظل شخصية العقيد اركان حرب ابراهيم عبد التواب الذي قاد الرجال طوال فترة الحصار من ابرز ابطال العسكرية المصرية، سيظل اسمه شهابا لامعاً، نجماً باقيا في سجل الخالدين، كان ابراهيم عبدالتواب نموذجاً للانسان المصري الهاديء، البسيط، قبل الحرب كنت اذ تلتقي به تألفة بسرعة، تعرف أنه يعيش حياة هادئة، يتفاني في عمله الي حد مذهل، ينغمس فيه تماماً لا يوحي هدوؤه بأنه سيأتي يوماً ما عملا خارقا مما نطلق عليه تعريف «البطولة»، ولكن كان ابراهيم عبد التواب يمثل الانسان المصري العادي الذي يظل يعيش حياته بهدوء، حتي إذا جاءت لحظة معينة، أو موقف معين تفجرت عوامل عديدة داخله لتشكل سلوكه البطولي، وفي كبريت سجل ابراهيم عبد التواب ارقي ما يمكن ان نتصوره من معاني التضحية، والصمود.

 

***

 

علي رأس تشكيل من مشاة الاسطول اقتحم العقيد ابراهيم عبدالتواب منطقة البحيرات المرة، كان التشكيل مجهزا بعتاد خاص بحيث يتلاءم مع ظروف المنطقة التي سيعمل فيها، وتم اقتحام نقطة كبريت القرية الواقعة شرق البحيرات المرة في تمام الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر السبت السادس من أكتوبر، اي بعد نصف ساعة من بدء الهجوم، عليها، ويرجع هذا بالدرجة الاولي الي جسارة الرجال المهاجمين، لم ينتظروا اتمام وحدات المهندسين تطهير المناطق المحيطة بالنقطة القوية والمزروعة بالالغام، والاسلاك الشائكة، انما اقتحموا حقول الالغام بمركباتهم واجسادهم، وهذا عمل عسكري تخطي كل الحسابات التقليدية في عالم الحرب، مما كان له تأثير كبير في انهاء المقاومة العنيفة التي ابداها جنود العدو.

كانت النقطة القوية في منطقة كبريت شرق تمثل احدي النقاط القوية التي يتشكل من مجموعها خط بارليف، ولكنها لم تكن نقطة استراتيجية كنقطة لسان بورتوفيق او النقطة الواقعة في مواجهة القنطرة، أو نقطة الشط، او نقطة الكيلو عشرة جنوبي بورسعيد، ويرجع هذا الي وقوع هذه النقطة علي البحيرات المرة، تلك المساحة المائية الواسعة والتي لم يضع العدو في حسبانه امكانية عبور القوات المسلحة المصرية اليها، خلال الايام التي تلت السادس من أكتوبر قام التشكيل الذي يقوده ابراهيم عبدالتواب بواجباته القتالية، ولكن مع مجيء يوم ١٦ اكتوبر بدا أن العدو يبذل جهداً عسكريا هائلاً في محاولة لاختراق صفوف قواتنا والعبور الي الضفة الغربية للقناة، ويشترك البطل مع زملائه في صد هجمات العدو المتتالية، ويشارك معه زميله محمد امين مقلد، وجاء الي الجبهة ليشهد اللحظات التي طال انتظاره لها، كان قلبه يأكله، لا يطاوعه ولا يريحه في البقاء بعيداً عن الرجال، قام البطلان بقيادة جميع الهجمات التي تمت ضد قوات العدو وتجمعاته في المنطقة، خاصة يوم ٢٢ أكتوبر.. في مساء ذلك اليوم ركز العدو هجوماً كبيراً بعد تحضيرات قوية من المدفعية، وقصف طيران متواصل من الساعة الرابعة حتي السادسة مساء، وعند هذا الوقت شن هجوماً قوياً بأربعين دبابة وحوالي ٢٢ عربة مدرعة نصف جنزير، وتم تدمير الهجوم المعادي، احترقت ١٢ دبابة وعربة نصف جنزير، وظلت هذه الخسائر موجودة حتي انسحاب العدو من حول موقع كبريت، في هذه الليلة كان عدد كبير من المقاتلين قد تجمع في نقطة كبريت القوية، اشرف ابراهيم عبدالتواب ومحمد أمين مقلد علي توزيع الرجال حول النقطة القوية التي استولوا عليها يوم ٦ أكتوبر، أول ايام الحرب، بعد هجوم استغرق نصف ساعة فقط.
قاما بتوزيع الرجال طبقا لخطة موضوعة حول النقطة.

ولم يدعا أي جندي يحتمي بداخلها، لانها ستكون هدفا رئيسيا لطيران العدو وهذا ما جري بالفعل.
في تلك الليلة، ليلة ٢٢ أكتوبر ١٩٧٦، اصيب المقدم محمد علي مقلد في رأسه، طلب منه أن يعود الي الخطوط الخلفية، لكنه عصب رأسه، وأبي مفارقة الرجال.
يوم ٢٣ أكتوبر ١٩٧٣، بدأ قصف نيران منذ الساعة التاسعة صباحاً وحتي آخر ضوء. قصف جوي مكثف بمعدل ٤ طائرات في كل طلعة بفاصل زمني قدره خمس دقائق.

كان القصف يركز علي مداخل النقطة القوية، وعلي الدبابات والقطع المدرعة المتبقية بين أيدي الرجال، كان القصف بواسطة قنابل زنة الالف والألفين رطل، وهذه القنابل يعجز الخيال عن تصور مدي ما تحدثه من تدمير بالاضافة الي بشاعة انفجارها، وضخامة شظاياها، وقوتها التدميرية، وقدرة التفريغ الناتج عن انفجارها.

في هذا اليوم كان قد تم توزيع الرجال حول نقطة كبريت. تم تحديد موقع لكل جندي. نظم الدفاع عن الموقع. أو كما يقول أحد رجال كبريت فيما بعد:
«تم في ذلك اليوم وضع اساس الصمود في الموقع الذي بقي حتي انسحاب القوات الاسرائيلية».
ليلة ٢٣ أكتوبر ١٩٧٣. استشهد المقدم محمد أمين علي مقلد، ومنذ هذه اللحظة تولي العقيد اركان حرب ابراهيم عبد التواب قيادة موقع كبريت، في نفس الوقت كان الحصار الطويل يبدأ.
قطعت الاتصالات اللاسلكية. ودمر جزء كبير من معدات الاشارة، نتيجة للقصف الشديد يوم ٢٣ اكتوبر، في نفس هذا اليوم استشهد الرائد نورالمسئول عن مواصلات الموقع السلكية واللاسلكية، يوم ٢٤ اكتوبر١٩٧٣، استأنف العدو غاراته الجوية وقصف المدفعية، في نفس الوقت الذي كان الرجال يتصدون للعدو ويردون هجماته، كان ابراهيم عبد التواب يستغل كل ثانية لتدعيم دفاعات الموقع، من حفر خنادق، تنظيم الدفاعات، وتوزيع الرجال وتقسيمهم في مجموعات.
في الصباح الباكر من يوم ٢٥ أكتوبر دفع بدورية مسلحة سارت بحذاء الطريق الساحلي للبحيرات المرة، وذلك بهدف تحقيق الاتصال بقيادة الجيش الثالث. وبعد مسيرة سبعة كيلو مترات تم تحقيق الاتصال وتحديد المطالب من المهمات والتعيينات، ومنذ هذه اللحظة بدأ دفع عدة دوريات، من رجال موقع كبريت عبر هذه الطريق، كانت الدوريات تحمل نقالات فوقها الجرحي لاخلائهم الي الجيش الثالث، وفي العودة كانت النقالات تحمل بالادوية وجرادل المياه، وحتي ٣ نوفمبر ١٩٧٣، أمكن قيام ست دوريات بمهمتها، في ذلك اليوم اكتشف العدو هذا الطريق النحيل الذي يربط موقع كبريت بمواقع الجيش الثالث، تحركت قوات معادية للتمركز في هذا الطريق. وبذلك اصبح الرجال محاصرين من جميع الجهات فيما عدا ظهر الموقع المحدود بمياه البحيرات المرة، بدأ العدو في انشاء مواقع مجهزة حول كبريت، وكانت طبيعة الارض تساعده، اذ انها تندرج في الارتفاع الي الشرق، اي ان العدو يشرف علي الموقع من اماكن مرتفعة، في اليوم الذي قامت فيه آخر دورية بمهمتها، امكن تكديس كمية من الطعام والمياه في الموقع، وهنا يقرر ابراهيم عبد التواب التصرف بحكمة شديدة في الكمية المتاحة، ان الرجال في حالة اعياء شديد، لم يناموا منذ ايام عديدة، القتال متصل، مستعر، ولكن هذا لا يعني استهلاك كمية الطعام كلها، لم يكن ابراهيم عبدالتواب يحارب ضد العدو فقط، إنما ضد الظروف الصعبة في الحصار، بما فيها الضعف الانساني، في الفترة من ٢٤ اكتوبر وحتي ٥ نوفمبر ١٩٧٣، كانت كمية الطعام التي تصرف لكل مقاتل كما يلي علي مدار يوم كامل:
<  ربع علبة فول ١٢٥ جراما
<  ربع باكو بسكويت
<  ربع لتر ماء في اليوم الواحد
وفي يوم ٥ نوفمبر تمكنت قيادة الجيش الثالث من دفع قارب مطاط يحمل نصف طن من المؤن، في يوم وصول الامداد أمر ابراهيم عبد التواب بتوزيع ترفيه علي الرجال، كان الترفيه يعني توزيع الكمية التالية لكل فردين:
   < علبة فول
<  علبة خضار
<  علبة مربي
كان اليوم الاول يشهد توزيع هذه الكمية، ثم توزع نفس الكمية في الايام التالية ولكن ليستهلكها المقاتل في أربعة ايام بدلاً من يوم واحد، كان ابراهيم عبد التواب شديد الصرامة فيما يتعلق بتوزيع الطعام، كان حريصا علي الاحتفاظ بكمية احتياطية من الطعام حتي يمكن استهلاكها في ايام قد يعز فيها المدد الي حد قاس، وقد حدث بالفعل فيما بعد ان تأخر وصول الامدادات من الجيش الثالث، واستهلك الموقع كل الاحتياط الذي حافظ عليه ابراهيم عبدالتواب، وعاش الرجال لمدة يومين متتاليين علي المياه فقط، حتي وصلت امدادات الجيش الثالث، كان ابراهيم عبدالتواب يمر علي جميع الرجال في الموقع اثناء تناولهم لطعامهم، وكانت الكميات توزع بالتساوي علي الجميع، الضباط والجنود، كان الرجال يخلطون طعامهم بالمياه حتي «ينفش» ويوحي حجمه بالشبع، وكانت المياه من أكبر المشاكل التي واجهها المقاتلون في الحصار.
***
حرية الحركة محدودة، المكان كله لا يمتد أكثر من كيلو متر مربع، الجوع يمكن احتماله. يمكن مقاتلة العدو مع دوار الرأس، والاعياء البادي، لكن الظمأ صعب، وتوفير المياه لهذا العدد من الرجال اصعب.. بدأوا يفكرون، واستقر التفكير علي ضرورة تقطير مياه البحيرة، كان هناك خط حديدي قديم يخترق الموقع، قام الرجال بخلع الفلنكات الخشبية، لاستخدامها كوقود تسخن فوقه الجراكل التي تعبأ بمياه البحيرات المرة، كان الهواء بارداً، حاداً أدي هذا الي استهلاك كمية كبيرة من الوقود، اضطر الرجال الي انتظار الايام التي يتحسن فيها الجو حرصا علي استهلاك أقل قدر ممكن من الوقود، كان العدو يرقب بدهشة اشتعال النيران داخل موقع كبريت وتكوينها اشكالاً غريبة، كان العدو يحار فيما يفعله الرجال، وحلا لمشكلة الاستحمام خصص ابراهيم عبد التواب يوم الجمعة لذهاب الرجال علي دفعات الي مياه البحيرات المرة حيث ينزلون الي مياه البحيرة، ويدعكون اجسادهم برمال القاع التي تحوي مواد كيماوية، كذلك يقوم الافراد بغسل ثيابهم، ثم يتم توزيع نصف زمزمية مياه علي كل مقاتل ليزيل آثار المياه المالحة من علي جسده، كان ابراهيم عبدالتواب حريصا علي نظافة المقاتلين، والتزامهم المظهر الحسن، يثور اذا وجد أحد الرجال طويل اللحية، أو متسخ الثياب، وليس هذا مجرد مظهر ولكنه ينتمي إلي ضرورة المحافظة علي الروح المعنوية للمقاتلين. كذلك تم تخصيص كمية من المياه لاستخدامها عند تسخين الدبابات او تحريكها وكان حرص ابراهيم عبدالتواب علي توفير كمية المياه الخاصة بالدبابات يعادل اهتمامه بتوفير المياه للمقاتلين.
***
لا تعني ظروف الحصار القاسية ان الرجال التزموا موقع الدفاع فقط امام هجمات العدو الاسرائيلي، كان ابراهيم عبد التواب يقول دائماً.
«إذا ضربوا طلقة نرد عليهم بعشرة»
وكان لا يسمح بأي تحرك في مواجهة الارض التي يسيطر عليها الموقع، أي عربة مدرعة اسرائيلية، او دبابة، او جندي، أي حركة من جانب العدو كانت تقابل باطلاق النار الفوري، من الموقع، كانت الاشتباكات لا تهدأ، اشتباكات يومية بالاسلحة الصغيرة والمدفعية الثقيلة. اشتباكات علي مستوي واسع خاصة عند حدوث عمليات امداد الموقع، كان ابراهيم عبد التواب يدفع بكمائن مسلحة الي المياه لحماية قوارب التعيين الاتية من الجيش الثالث، ينزل الرجال الي مياه البحيرات المرة في اقسي ايام الشتاء، ينتظرون بالساعات مجيء القوارب، وفي نفس الوقت كانت مدفعية الجيش الثالث تتأهب كلها للاشتباك مع العدو في حالة اكتشافه قوارب الامدادات في القناة، كان ابراهيم عبد التواب يستخدم الاسلحة الاسرائيلية والقذائف الاسرائيلية التي كانت موجودة في النقطة القوية ويضرب بها مواقع العدو المحيطة.
وادي هذا الي استفزاز العدو وإحداث شرخ في روحه المعنوية، كانت اسرائيل تريد اقتحام الموقع ولكنها عجزت عسكريا امام اصرار الرجال بقيادة ابراهيم عبد التواب برغم ظروفهم القاسية، عرضت اسرائيل اخلاء الموقع بدون اسلحة، ورفض ابراهيم عبدالتواب، ورفضت قيادة القوات المصرية، عرضت اسرائيل أن يسلم الموقع مع خروج جميع افراده بكامل اسلحتهم وتسهيل انتقالهم الي الجيش الثالث، رفض ابراهيم عبدالتواب ورفضت قيادة القوات المصرية.


وعندما جاءت اشارة يوم ١٧ نوفمبر من هيئة الامم المتحدة تفيد بأن طائرة اسرائيلية ستصل الساعة الحادية عشرة وعليها أفراد من الصليب الاحمر لاخلاء الجرحي الموجودين بموقع كبريت، رفض ابراهيم عبدالتواب مجيء الطائرة، ورد قائلاً أنه سيطلق النار عليها لو هبطت بالقرب من الموقع، في نفس الوقت رفض الجرحي مغادرة زملائهم، فضلوا البقاء والعلاج بامكانيات الموقع الذاتية.

كان الطيران الاسرائيلي قد دمر النقطة الطبية بالكامل، والطبيب الوحيد بالموقع د. محمد عبدالجواد مصاب في رأسه وعالج نفسه بمساعدة أحد جنوده. ورفض ان يغادر الموقع تحت أي ظروف واستمر يعالج الافراد، كانت شخصية ابراهيم عبدالتواب ممسكة بكافة اطراف الحياة في الموقع، تؤثر في الجميع بصلابتها، وتواضعها وصمودها، كانت المسألة بالنسبة له تعني أن شرف مصر يتعلق بهذه البقعة من الأرض التي ترفع العلم المصري في قلب محيط من قوات العدو، كان يهتم بأدق التفاصيل علي امتداد الحياة اليومية للموقع.
في الحصار الطويل كان اليوم يبدأ في تمام الساعة السادسة صباحاً، يقوم بعض الجنود بالاستعدادات الخاصة بتقطير المياه. ومن الساعة الثامنة حتي التاسعة يتم تجهيز وجبة الافطار، ثم يبدأ ابراهيم المرور علي كل مقاتل في الموقع، كان الجنود إذ يستيقظون يرونه في كامل ثيابه، متواجداً في كل شبر من الموقع، وإذ ينامون كان آخر من تقع عليه عيونهم.. ابراهيم عبدالتواب.

علي امتداد اليوم يجلس اليهم، يحادثهم ، يصغي الي مشاكلهم، الي اشواقهم التي يضخمها الحصار والانقطاع عن الأهل، لكن لا يذكر احد من الجنود أنه تحدث عن نفسه، او عن مشاكله، او عن اسرته، فيما عدا مرة واحدة في أحد الليالي بعد اطراقة قصيرة تحدث الي الضباط الذي كان يقاسمهم النوم في الملجأ عن أطفاله، مني وطارق، وخالد، قال إنه رآهم قبل الحرب بثلاثة أيام لآخر مرة، وأنه قام بتغليف كراسات المدرسة لكل منهم، وداعبهم، وقبل ذهابه فجر اليوم، دخل الي حجراتهم علي اطراف اصابعه. قبلهم ثم مضي.. بعد صلاة الظهر في كل يوم يجلس ابراهيم الي الجنود يشرح الموقف، ويتحدث عما جري في الموقع خلال اليوم، ثم يقرأ القرآن، يشرح بعض الآيات وأسباب نزولها، ويرد علي استفسارات الرجال، كان يطلب من المسيحيين في الموقع قراءة الانجيل باستمرار، وفي قلب الموقع خصص قطعة من الرمال واستخدمها المسلمون مسجداً، واستخدمها المسيحيون كنيسة، من فوق نفس الرمال توجه كل منهم الي الله، في يوم الجمعة كان صوت ابراهيم يرتفع بخطبة الجمعة، ويؤم المصلين. حرص علي توفير جزء من الامدادات قام بتوزيعه علي المقاتلين صباح يوم العيد كترفيه، وفي يوم ٧ يناير فوجيء المسيحيون في الموقع به يوزع عليهم نفس الترفيه في أحد الأيام وزع برتقالة علي كل أربعة أفراد، وفضل أفراد موقع الملاحظة المواجه للعدو الا يأكلوا برتقالتهم. انما امسكها أحد الجنود وراح يرميها في الفراغ ثم يتلقاها بيده مرات حتي يوحي لجنود العدو بوفرة الطعام في الموقع.
***
كان يوجد راديو جاء كهدية من قيادة الجيش الثالث مع أحد قوارب الامدادات، كان وسيلة الاصغاء الي العالم الخارجي، حرص ابراهيم علي استخدام الراديو بحذر حرصا علي البطاريات، لم يفتحه الا لسماع نشرات الأخبار والقرآن الكريم.
بعد صلاة العصر يبدأ ابراهيم في المرور علي الرجال مرة أخري حتي ميعاد المغرب، بعد صلاة المغرب يبدأ الرجال تناول الوجبة الثانية والاخيرة، ثم يبدأ توزيع المقاتلين علي خدماتهم الليلية، الساعة ٧.٤٥ يصغي الموقع الي القرآن المذاع من صوت العرب، الشاعة الثامنة يصغون الي القرآن المذاع من مصر، ثم إلي نشرة الاخبار، الساعة التاسعة يبدأ ابراهيم المرور علي الخدمات الليلية مع الضباط، ويستمر هذا المرور حتي الفجر، لم يكن ابراهيم وضباط الموقع يذوقون النوم الا لمدة قصيرة قد لا تتجاوز الثلاث ساعات علي امتداد اليوم كله، كان ابراهيم عبدالتواب يشعر بدوار بسبب قلة الاكل، كثيراً ما أعطي طعامه للجنود الذين يري اعياءهم باديا، كان الحدث الذي يرفع الروح المعنوية لدي الموقع حدوث اتصال لاسلكي مع قيادة الجيش الثالث، حرص اللواء احمد بدوي علي تجنيد كافة اجهزة الجيش لامداد موقع كبريت، وفي الجانب المقابل حرص ابراهيم عبدالتواب علي الا يثقل علي قيادة الجيش بالمطالب، ونظرة واحدة الي سجل الاتصالات  اللاسلكية الخاص بتلك الفترة تثير التأثر الشديد مهما انقضت السنون، كانت قيادة الجيش الثالث تلح في معرفة مطالب الموقع، ويجيب ابراهيم عبدالتواب.
طمئنونا أنتم عن احوالكم. نحن بخير ويمكننا ان نتصرف.
كان ابراهيم عبدالتواب روح موقع كبريت، لا يزرع الصمود في النفوس فقط، انما يزرع الحب، ويعمق الانسانية بين الرجال، كان متواجداً في حياة كل انسان بالموقع، لا يطلب اداء عمل صعب الا ويكون هو أول من يقوم به مهما كانت نوعية هذا العمل، واستمر جهده الفذ متصلاً منذ بداية الحصار ولمدة ١٣٤ يوما كاملاً، وفي يوم ١٤ يناير ١٩٧٤، قام العدو الاسرائيلي بتحريك بعض عرباته  المدرعة في مواجهة الموقع، وأمر ابراهيم عبد التواب باطلاق النار.
اصيبت عربة معادية اصابة مباشرة، جن العدو، وبدأ يفتح جميع نيرانه علي الموقع، وكالعادة كان ابراهيم في الموقع المتقدم يوجه المدفعية عند الحد الامامي، وكانت الساعة العاشرة صباحاً الا عشر دقائق، عندما اتخذت دانة مدفع هاون عيار ٨١ مللي طريقها الي تلك النقطة المتقدمة.
***
برقية من قيادة الجيش الثالث الي موقع كبريت.
 من هيئة عمليات القوات المسلحة الي المقاتل سعد الدسوقي قائد موقع كبريت شرق، جميع رجال القوات المسلحة تقدر فيكم روح البطولة والفداء، وتحيي روح الشهيد عبدالتواب. املنا وثقتنا كبيرة في صمودكم وثباتكم تحيتنا لجميع رجالكم، والي الامام علي طريق النصر.
***
تعاهد الرجال علي الصمود، قال كل منهم للآخر، هكذا اراد الشهيد العظيم، ولابد أن نحقق له ما أراد، وكما أراد  قاموا بدفنه علي مستوي الارض، احتضنه الرائد محمد سعد الدسوقي الذي خلفه في قيادة الموقع، مددوه داخل الارض التي كانت تمثل بالنسبة له شرف مصر.
وكانت الدانة التي استقرت احدي شظاياها داخل جسد الشهيد العظيم آخر دانة تطلق علي الموقع، فقد انسحب العدو بعد ايام تنفيذا لاتفاقية فصل القوات، وبقي موقع كبريت الي الابد رمزاًِ للشرف والصمود.

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech