Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

الرفاعي .. رواية جمال الغيطاني

الرفاعي .. رواية الاستاذ - جمال الغيطاني

عرض وتلخيص - اسماء الكاشف  

 

من أقدم ما كتب عن أمير شهداء أكتوبر العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي  ، كتبت فى 1976 وخرجت لتكون فى متناول يد القراء  فى 1978  ،

الناشر :دار الشروق ، الطبعة الثانية 2011 .

 

بدأت الرواية بالعد التنازلي .. 13 يوما تبقت على استشهاده .. 13 يوماً من لحظة الفخر والأنتقام الأكبر من العدو الغادر ... 13 يوم كانت جسراً بين الرفاعي والشهادة ،، والحق أننى فى البداية كانت فكرة العد التنازلى صعبة التفسير على ذهني .. هكذا بسرعة يتركنا !  .. كان العد التنازلى بداية النهاية لحياة حافلة بالمخاطر  و الصعاب التى كثيراً ما ألتقاها أمير الشهداء وهو شامخ .. حتى بدا فى كل لحظة صلباً متماسكاً أمام أعتى المواقف  وأكثرها شراسة .. 

أختلفت رواية الرفاعي بالنسبة لى عما قرأت لأننى استشعرت الكاتب وقد دخل فى أعماق البطل وتعايش مع مشاعره وأحاسيسه بل ومع شعور من حوله ،، لم تخرج الرواية تسرد لى بطولات الشهيد الرفاعي  وحسب   " فهل يتسع أحد هذه الأشياء للرفاعي ؟؟ " من هنا كان عمق الحديث لم يخرج العمل مجرد سرد بطولات و لكنه كان خليطاً من البطولة والشعوربشتى أنواعه من حزن وألم وأرتياح وفخر وحماسة ومسئولية  ..

قدمت الرواية لى سمات  الشهيد الرفاعي من خلق ومراعاة لمن حوله وحنوه كأب على أولاده ورعايته لأسرته ، فى حين أنها قدمت على الجهة المقابلة أستراتيجية الرفاعي القائد التى تميزت بطابع خاص منها  :

1 - فهو  دائماً ما كان يتجه لتسديد ضربة موجعة للعدو  ويوحد قدرات رجاله لتسديد تلك الضربة  .. 

2-  أفضل الظروف لملاقاة العدو  فى وقت لا يتوقع فيه مجىء إنسان ،، فلم  تمنعه أمواج ولا رياح أو شعاب مرجانية من الوصول إلى هدفه ..

3- علمه أقتحام الليل والعبور إلى الأرض  ألا تهتزأ أعصابه من المفاجأة  ،، المفاجأة لا ترهبه  والمجهول لا يخيفه  لكنه دائماً  يود ان يعرف لكي يحدد موقع الخطوة التالية ..

4- لم يكن ليدع أحد رجاله مفقوداً  فريسة للأمواج وأسماك القرش .. وهو ما اتضح فى بحثهم عن الجندي فرغلى ..

5-  الهجوم بالمواجهة دون اللجوء إلى أى مناورة  .. وكما وصف الكاتب ذلك بأنه  (( المستحيل وغير المعقول )) بالنسبة للعدو .

6- يكره الرفاعى الهدف بمجرد المصادفة فكل هدف يخطط له  .. فهو كما قال الكاتب يكره الصدفة التى تنوب عنه فى إنجاز عمل ما   ،، نعم يمقتها لأنها تدفع بالشظية فى الأتجاه الذى تحدده  وليس الذي يقدره هو .

7 -  يكون فى مقدمة الهجوم  ومجابهة الأخطار وآخر من يغادر الموقع ..   (( فى الهجوم هو الحرف الأول  وفى العودة هو اللفظ الأخير  .. لحظة ألأشتباك تسبق طلقته كل الطلقات  ))

8-  تعطيل ساعة فى زمن الحرب شىء لا يستهان به 

9- لا يعترف الرفاعي بأساليب وطرق ثابتة ..

10 – مع احتفاظه بخطط لمهاجمة أهداف للعدو  ورد فيها كل المعلومات المتاحة عن الهدف إلا أنه احتفظ بما يخص الرجال المنفذين للهجوم لنفسه  فموضع كل منهم  فى خطط الهجوم تحدد عبر الزمن  ..

11-  الجبهات لا تنتهي بالنسبة للمهزوم  ، ما أكثر الجبهات التي  يمكنه أن يحارب فيها ، يبدو الجسد هائلاً قوياً  ،لكن اكتشاف الوهن وتسديد ما يوجع ويؤلم  ويفري الحشاء .

 

12- الصراع لا يدور فقط ضد هياكل خرسانية وحصون ودبابات ومدافع سريعة وأخرى ثقيلة لكن الصراع يجب أن يشن ضد الخور فى النفوس ، الثقة التى اهتزت وتدلت فى بئر قلوب مهتزة  .

13 – الذهاب إلى العدو ومحاربته أفضل من البقاء فى انتظاره ..

تلك بعض من أستراتيجيات الشهيد الرفاعيى فى تنفيذ المهام ،، بعضها تعلق بإنسانيته وأخرى بإقدامه وخططه وهدفه وحتى بالتنفيذ وأيضاً برجاله ..

وحينما يصف الكاتب رغبة الرفاعي فى أن تنفجر عناصر الطبيعة نفسها  فى وجه العدو  يشعر القارىء برغبة مماثلة أو يكفي هذا العدو حقاً مجرد أنفجار صاروخ أو ألغام تنعث منها النيران !؟  ،، حقيقة أنها تثير الفزع فى قلبه وتؤرق مضجعه وتجعله جالساً فى انتظار الموت  ،، وقد يقتل أحدهم من الخوف ألف مرة جراء ما يحدث لرفاقه من قتل وإصابات .. لكن وللحق ما فعلوه فى جنود نا وما أقتطعوه من بقعة أرض غالية قدس أقداس مصر  سيناء تستحق أن نتمنى أنفجار الطبيعة  تحت أقدامهم  .. بل إن أى ذرة رمل فى هذا الوطن فى أى مكان تستحق أن نشعر بها كما شعر بها البطل والكاتب .

وثمة شىء آخر هام فرغم كرهه وكرهنا للعدو إلا أنه لم يكن ليخفي إعجابه بسرعة استجابة العدو لمناطقهم المهددة ..  فما أن يطلبوا النجدة حتى يحلق طيرانهم فى الأجواء  .. ودفعنى هذا للمقارنة بين عدو كان يطلب النجدة فى كل وقت وتأبى قواته أن تواجه مصيرها وحيدة بمعزل عن ذراعها الطويلة  ..  وبين رجال حملوا على عاتقهم أن يجابهوا العدو  فى تحصيناته المقامة على أرضنا  ..فقط زوارق تحملهم على الجانب الآخر  .. قصف مدفعي  ..  طائرات تحملهم لقصف بترول بلاعيم  فهم يجابهون الموت  بأنفسهم  بل ويعدون  الوصول إلى الهدف صدفة نوع من القصور فى الخطط التى وضعت  .

  كان  أول المشاهد التى أبكت القارىء  حينما  تألم  الرفاعي  ويرفض أن يتأوه أن يصدر أى حركة غير طبيعية أمام رجاله  و كان حديثه معاتباً معدته المصابة بقرحة  مما يدمي القلوب، مجرد نداء على صديقه علاء كان كفيلاً أن يحقنه ويتوقف الألم ، لكنه أبى أن يكون ثمة أمر غير طبيعي ... أن يحرم الإنسان نفسه من مجرد التأوه أو حتى إصدار أى حركة توحي بألمه لشىء يستحق التوقف أمامه كثيراً ، لم يكن الرفاعي يحارب العدو وحسب بل كان أيضاً محارباً عنيداً للمرض ..  حينما قرر أن يواجه الألم بالألم ويضغط على معدته بالمدفع .. بات القارىء وكأنه أيضاً يتوسل إليها أن تخف الألم عنه ولا سيما انه قرر أن يستسلم له فى القارب فور الأنتهاء من مهمته .. ثم تلاحقت الدموع حينما يستشهد عصام الدالي .. حينما يستشهد أحد رجال المجموعة .. حينما يلحق بهم الشهيد الرفاعي ..

 وأثار  العقيد علاء الأوجاع فى نفوس القراء .. ولا سيما حينما تساءل عما يريدونه من الرفاعي متوسلاً إلى نابشى السير أن يتركوه وشأنه .. وإن كنت اتفهم أنه كمحارب صلب بجوار الشهيد الرفاعي أثار الأستياء أن تقتصر سيرته على فيلم سينمائي أو حلقات إذاعية ..

 " ماذا يريدون أن يفعلوا بالرفاعي  ؟ حلقات إذاعية  ؟ رواية  ؟قصة ؟ فيلم سينمائي  ؟ هل يتسع أحد  هذه الأشياء للرفاعي  ؟لهذا العمر كله  ، لو اتصل به أحدهم مرة أخرى  سيصيح فيه ، يا لصوص  كنوز المقابر ..اتركوا  ، اتركوا  الرفاعي فى حاله ، لا يود رؤية نابشي  السيرة الفضوليين  ، المتطفلين  ،كأنهم  يتحلقون به فى هذا الليل  ، يخشى الليل الآن  ،

ولكننا الآن ما أحوجنا إلى النبش فى سيرهم جميعاً .. شهداء مصر وكل من ذاد عنها ،، فى حاجة أن نتعرف أن تلك الأرض لم يكن ثمنها بخس إنما دفع لأجلها  أرواح ودماء عشرات الالآف من الشهداء والمصابين ، فى حاجة إلى القدوة التى تاهت منا فى زمن تركنا فيه قبر الرفاعي وسيرته وقبور الآلاف .. وتجاهلنا فيه تضحيات رفاقهم من الأبطال .. ففقدت البطولة معناها و تبدلت ملامحها وأصبحت قاصرة على مرمى فى هدف أو  حرق علم الدولة المعادية !  وصعد على قمة الأهتمام من ليسوا أهلاً له ..  النبش فى سيرهم لم  تكن جريمة ولكن الجرم أننا تجاهلنا سيرهم ، فخرجت من جيل لا يعرف من أكتوبر والأستنزاف  إلا بعض مشاهد أفلام السينما   .. كان النبش فى سيرهم ضرورة نستعيد فيها ملامح الوطن وقيمة ترابه ..

حينما ظهرت طائرات الميج 17 فى طريقها لضرب صواريخ الهوك  ،، وكأنى بالفارس اللواء طيار محمد عكاشة وأبطال السرب 62 يحلقون أمامي ..  كما صال الرفاعي وجال برجاله فى حديث النسور ..

أما مشاهد النكسة فقد اثارت الأحزان والأوجاع .. كان وصف الكاتب للحزن الذى أطبق على مصر  حتى أعمدتها الخرسانية  وشوارعها وسمائها .. وكان الأكثر إيلاماً  والذى أفجع الكثيرين  أن يساوى العدو بين فدية جندي أو ضابط مصري وزجاجة الكوكاكولا  .. كان هذا المشهد وحده كفيلاً أن لا يغادر الثأر  ذاكرة الرجال ..بل ذاكرة الأجيال .. ناهيك عن القتل العشوائى ودهس الجنود وكل ما أرتكب من جريمة  بيد العدو  يعد الإجرام المكون الأساسى فيه  ..

كما أن التعامل مع شخصية الرفاعي أختلف عن أى تناول آخر  لقد تناول الكاتب شخصيته وقدمها لنا فى الرواية كقيمة  ظهرت وستظهر فى كل زمان ومكان  ..

فحينما جال الكاتب في ذكريات زوج أمير الشهداء .. وكأننا نعيش تلك الذكريات معها ،، نتجول فى أركان منزلهما ونتلمس معها أريج تلك الأيام .. ونتنسم عبقها .. نتعرف منها  الشهيدالرفاعي فى منزله كيف كان  الزوج والأب والقدوة والقائد .. وكيف كان يفكر في غيره ويحاول التخفيف عنهم ..

الشهيد الرفاعي لا يأبه إن كان الناس يشعرون بما يقوم به هو ورجاله .. فهو يحارب من أجلهم جميعاً ..

ولأن الكاتب تعامل مع الرفاعي كقيمة ومعنى لذا فقد خلص إلى أنه سيظهر فى شتى الأزمنة والمواقف ... فالمعانى والقيم لا تختفي ..

مزيج من المعارك والمشاعر والذكريات ... هكذا كانت رواية الرفاعي ..

جزء من الفصل الثالث  : النشور :

 

الأسكندرية مثوى الذكريات مأوى صان الأيام الجميلة  والآن فيها منبع الدموع المؤجلة التى لا تتوقف ولا تكف .. وعندما وصلت  إليه وانتظرت عربة تاكسي أمام تفتق جرح كاو ألهب دقات قلبها  لن يظهر فجأة وهو يقبض  يدها عندما تفيض أشواقه فتدرك من صمته  مالم تدركه من نطقه ولأن السند هوى وكل شىء ستقوم هى به  ولأن  ظلها لن يختلط بظله فوق الرصيف المحاذي للبحر ولأنه لن يشير إلى الأفق الزجاجي  ويقول ضاحكاً آه لو يمشى الإنسان فوق الماء ولأنها لن تصغي إلى أمنياته ورغباته الغامضة وعندما جاءت معه إلى الأسكندرية  أول مرة  فى الزمن الأول جاءت وجلة تحبه بعد أن نأت عن الأقارب الذين عارضوا والأشقاء الذين رفضوا ،

 وفيما يلي ذلك من سنوات جاءت معه إلى الأسكندرية  المبتلة بقطرات أيامها الأولي والتى تستعيدها الآن فترويها بدوع سخية  تسح ولا تشح أبداً لأنها لن تراه ولن تسمع صوته  فهو لم يعد يمشي فوق  الأرض ولأنها لن ترصد الإرهاق الذي لا يبوح به ومن كلماته القليلة تجهد نفسها لاقتفاء آثار المعاني  ولأنه لم يكن يشأ إزعاج محبيه بآلامه ولأنه كان يفيض بالفرح على من حوله ويضن بالأوجاع والأحزان وعندما جاءها الخبر يوم الجمعة  حط على كتفيه ثقل بغيض وتوقف الزمن فى صمت باتر  وأدركت  أنها الخاسرة الأولى فى الدنيا ، وبدا البيت عمراً كاملاً وكل ما فيه مضخماً بروائحه فكل قطعة اختارها معه وها جلس وهنا ضحك  وهنا حمل سامح فوق كتفه عندما بلغ من العمر سنة  وأمام حجرتهما توقف  وسأل ، هل نام سامح ؟ هل نامت ليلى  ؟ فى الصالة انتظرته وخفق قلبها عند سماعها لخطوتيه الأخيرتين قبل ولوج المفتاح فى الباب ، وعرفت أنها ستعيش انتظاراً من نوع آخر  لأنه طويل المدى ومضن ومرهق للعمر ،

وفى كل مرة خرج فيها إلى القتال كانت تثق من عودته وتجلس فى الشرفة مع الليل ، وبعيداً عنها وفوق نقطة معينة من الأرض التى يحتلها العدو  يتحرك ويضرب ، وكان يقول إن الذهاب إلى العدو ومحاربته أفضل من البقاء فى انتظاره ، وقبل مجىء الفجر تصغي إلى الهليكوبتر التى تتجه إلى المطار القريب وفى إحدى الليالي قال إنه يحب أن يراها بعد عودته ونفذت كلماته حتى أطرافها وعندما جلس مرتدياً ثيابه المثقلة بآثار القتال أدركت من إطراقته  ونطق كلماته مدى ما أصابه  من نجاح ، ولم تكن تضيع ثانية إنما تتحرك فى هدوء لتعد قربة الماء الساخن وعشاء خفيفاً ، وكان يضيق إذا قالت له إنها لم تتناول طعامها وتساعده فى خلع الأفرول ،

 وعندما بدأت الحرب يوم السادس من أكتوبر أزدحمت السماء بالهليكوبترات ولم تدر فى أى طائرة هو ؟ ولم تدر ميعاد عودته وبعد سماع الخبر لم تواجه سامح وليلى إنما دخلت إلأى غرفتهما وهوت فوق المقعد المجاور للسرير ومن كل شىء نفذت إليها رائحته ، ورأت بيجامته الشتوية خاوية وزجاجة كولونيا مصرية الصنع لم تفرغ بعد ، وفوق المنضدة الغيرة غطاء الرأس العسكري الذى أحتوى رائحة شعره ، وتحته كتاب باللغة الإنجليزية  وبين صفحاته  تطل ورقة بيضاء مستطيلة  ، أما مكانه فوق السرير فمستو وتذكرته عندما كانت تفتح عينيها فتجده جالساً ومستيقظاً قبلها  ، وفى تلك اللحظة  استقر داخلها ثقل مرير وأدركت أنها لن تجرؤ  على ان تسند رأسها إلى نفس الوسادة لأن الحجرة أصبحت كهفاً من الوحدة  ،

وفى الليالي  الأولى جاء كثيرون لكن فى لحظة معينة  من الليل أغار  عليها خواء أبدي  وسقطت فى ثلاجة من الأحزان  ، وعندما واجهت القادمين لم تحن رأسه وحدقت فى العيون بثبات ولم يفارقها  يقين بأنه يراها ويطوف بالبيت ملتحفاً بكل الألوان التى لا ترى وتنبعث منه روائح لا يميزها أنف وأيقنت أنه مبتل بالسكينة لأنه يراها فى النهاية  كما عرفها فى البداية  ، ولأنها استجابت له فى غيابه فلم تبك كما طلب منها وأدركت أنه يطوف بالبيت ليطمئن على النيام وليستريح ،

 وطوال العمر القصير تحرك فيه هادئاً بلا ضجيج ولم يتكلم كثيراً وكان ظله خفيفاً ، ولم يعاند ، ولم يضرب سامح ولم ينهر ليلى ، ولم تكن له طلبات ، وإذا سألته عما يود أن يأكل يقول لها (( ما ستأكلينه أنت )) وإذا احتدم النقاش يقول لها (( اخفضى صوتك سيسمعك الجيران )) وعندما تفتح الباب لا تدل ملامحه على الجهة القادم منها ولا إلى أى ناحية سيمضي ؟ وبعد رجوعه  من ليالي القتال يدخل حجرة  ليلى وسامح على أطراف أصابعه ويتأملها ثم يميل لقبلهما ويأبى إزعاجهما وهو الآن يحوم حولهما ولا تراه ليلى ولا يراه سامح ، وتود أن يرضى عنها فى غربته وسبل الأتصال بينهما مقطوعة ، وفى اليوم الأول لم تبك إنما قالت لنفسها إن زمان البكاء بدأ  وأن الأيام التى ستبكيه فيها بلا حد  ، وفى كل عام وفى يوم التاسع عشر من أكتوبر ستبدأ ذرف دموع تفيض على امتداد  السنة كلها ،

 وعندما ناءت بحمل الساعات والليالي والزمن الذى ولى جاءت إلى الأسكندرية  كما جاءوا أول مرة  وبعد زواجهما قالت أمه (( خلى بالك منها ) وصحبهما أشقاؤه  سمير وسامح وسامي حتى المحطة  ،

 وفى الفناء الكبير أشار إلى الديزل الذى بدأ  التحرك وقال أنهم تأخروا نصف دقيقة  و ضحك ، ورددت الطرف بينهم حائرة ، أهى مسئولة عن التأخير ؟ وهل استغرقت وقتاً أكثر من اللازم  فى أعداد حقائبهما  ؟ وضغط يدها  وخرجوا إلى الميدان وعاد سامي ليقول أنه عثر على تاكسي سيتحرك بعد قليل وعندما أدار السائق الموتور لوحوا بأيديهم  ،

 وفيما بعد حكى لها عن  اشقائه سمير وسامى والمرحوم سامح وحكى لها عن انتقال الأسرة  من بلد إلى آخر ، واستيقاظهم مبكرين  ليلحقوا المدارس البعيدة  ، ومشيهم فوق الطرق الزراعية  ، وحدثها عن الأنتقال المفاجىء  إلى بلد آخر  وعند وصولهم إلى المدرسة الجديدة  يجدون أنفسهم إما سبقوا المنهج  أو أن المنهج سبقهم  ، كما أن الزملاء والأصدقاء يتغيرون ، وفى طنطا توقف التاكسي ودخلا إلى استراحة  صغيرة وجلسا إلى منضدة مستديرة وتعانقت نظراتهما ومنذ هذه اللحظات مشت فى  وطنه وظللتها غماماته  وصارت معه ، ولو عرفت أنها ستحاول بعد سبع عشرة سنة استقصاء الأثر لصانت كل ما مر بهما ، ولاحتفظت بكل ورقة  فوقها حرف ولتعلقت بخطوات الزمن حتى تثقله فلا يمضي ،

 وعندما مرت أمام الفندق الذى قضيا فيه باكورة  العمر الجميل توقفت  ولم تجرؤ على عبور الطريق إليه  ، وحول البناء  رأت لحديقة كالسلوى  والمصابيح الملونة معلقة إلى أعمدة خشبية  وتذكرت جلوسهما تحتها ، وابتسامتهما ، وهمسهما ، وانحناء الجرسون لهما ن وعناقهما لزرقة البحر  من الشرفة الخشبية الفسيحة ، واستنشاقهما الهواء القادم من شطآن غير مرئية  ، وعندما حدقت  طويلاً فى البحر قال مرحا (( أقدم لك صديقي البحر ))  وعلى الشاطىء  قال لها أنه سيتعجل النجار بعد عودتهما لينهى الأثاث ، وعند نهاية  الرصيف المبلط بقطع صغيرة من الحجارة توقف وسألها ، إلى أين تودين الذهاب ؟ لو حاولت إحصاء المرات التى قطعا فيها هذا الطريق لكلّ ذهنها ، وفوقه مشيا عندما كانت ليلى جنيناً تطرق أبواب الدنيا من خلال أحشائها  وكان الحنو مغدقاً منه  ، واللهفة لا تفارق  صوته ، ومنه تسرب إليها رضا أحلى من الشعور بالأمن 

، وعندما جاء فى الإجازة انحنى فوق المهد ورفعها بين يديه ورأت وجهه تحت ظلال خجل غريب مهموس ، والآن تواجهها المدينة بالصمت  ، والبحر وحركته الأبدية  ،والناس يروحون ويجيئون ورجل يفتح باب سيارة لأمرأة ، وامرأة تتأبط رجلاً ، وتجثم عليها وحدة بغيضة فى قلب الزحام فتلوذ بأحد الأيام البعيدة  وتذكر أندفاعاته المفاجئة وفي البيت يتأمل الأثاث حيث لكل قطعة حكاية  ،

وكثيراً ما سألها  (( هل تذكرين متى أشترينا هذه الكنبة ؟ )) ويبدو مرحاً ، وعندئذ ترصد ملامح طفل تحبها ، وفي بداية كل شهر  يخرج مظروفاً أصفر اللون  وتقول ضاحكة  ،كم ستأخذ مصروف  ؟ فقال أنه لا يحتاج إلى شىء  ، وعندما سيحتاج سيقول لها ، وعندما عاد يحمل بعض الثياب قال ، ألم تناقش البائع فى الأسعار ، قال بدهشة  ، لم أفكر أبداً فى مناقشته .. الأسعار مكتوبة فى الفترينة ، ثم قال إنه لم يعتد المناقشة  ، وفي لحظات اخرى  دخل المطبخ وفتح الدولاب وتأمل العلب والصناديق الصغيرة وسأل ، ماهذا ؟عندئذ تقف ويداها معقودتان أمام صدرها وتجيب ( صابون ) ويسأل مشيراً إلى بعض  الأكياس  ، وهذا  ؟ قالت  (( زبيب من بقايا رمضان  ))وتتتقدم خطوة  لتقول  (( أنا سأريحك  ..هذا سمن ..وهذا زيت  )) ضحك وقال (( أنا لا أطالب بالجرد )) فقالت  بدلال (( اخرج إذن لو سمحت من المطبخ حتى أعد لك الغذاء  )) وهنا انصرف صامتاً كأنه لم يدخل ، وكأنه لم يسأل ،

 وكأن هذه الأيام لم تمر  ، وكأن سكيناً هائلاً بتر ففصل وأبعد ، وفى الزمن النائي تردد صوته فى التليفون واضحاً واثقاً  (( زواجي منك معركة  ولا يمكن أن أخسرها )) قالت بصوت خافت  محاذرة ألا يسمعها أحد (( .. هل تعتبرني عدوا ؟ )) وعندما خرج يوم السبت السادس من أكتوبر  كتب إليها رسالة موجزة  (( ... عندما يصلك خطابي هذا أكون ماضياً لقتال العدو  ، قولي لمن تلتقين به إن فى مصر رجالاً قادر على هزيمة العدو  ... )) وها هو كل شىء يفلت ويولي ..

 وعندما جاءا معاً إلى هذا المطعم  الذى لا تجرؤ على دخوله الآن كان المطر يهطل بغزارة  وعبر المسافة الفاصلة بين السيارة والباب قفزا  ، وعندما دخلا نظرا إلى المناضد الخالية  وأويا إلى منضدة مستدير وجلسا وقال كل منهما انطباعه للآخر ، وكانت تتدلى من السقف أوراق ملونة  ومصابيح كثيرة  وفى الركن شجرة عيد الميلاد الخضراء  وقال لها ، كل سنة وأنت طيبة  ، ولى ذلك العام ، وأعوام كثيرة  بعده ، وستجيء سنون  أكثر بدونه  ، وستخلو كل  الأيام من  مشاريعهما معاً ، وخطاباته  ، ومرات صمته  التى أعتادتها ولن تعد له مفاجأة عيد الميلاد ، احتفال بسيط فى بيتهما لأنه لم يعد هناك أعياد للميلاد ولا مكان للبهجة  ، إنما ستحاصرها أيام البكاء الطويلة  بأحزان وآلام ووحدة ، هى  الخاسرة الأولى  ،

وكثيراً ما يأخذها الفكر فلا تصدق أنه لن يعود ، ألم يواجه أخطاراً بلا حد  ، وعاد سالماً  وكثيرا ما هفا قلبها واستولت عليه حالة انتظار لسماع خطواته الأخيرة قبل  التوقف أمام البيت ، وعندما فتحت عينيها فى ذلك الصباح تقمصتها لحظات ولت ، عندما تفتح عينيها فتجده بجوارها ، وتدرك أن اليوم إجازة  ، وأنه سيبقى معهم ، ,أنه سيخرج بسامح ،و أنه سيداعب ليلى ،عندئذ تغمرها راحة  وتنظر  إلى وجهه الحلو الهادىء الآمن التقاطيع والوديع الملامح  ،وتنفسه  البطىء فتقول بصوت خافت (( يا حبيبي  )) ، غير أن لحظة الوعي  أدركتها كانقضاض صاعق ،فأدركت أنها وحيدة  ،وأنه لا يتمددد بجوارها ، وأنه ليس فى البيت ولا فى مصر ،ولا فى العالم ، وأن  الحجرة غير حجرتيهما فمنذ أيام افسحت مكاناً للكنبة فى غرفة  الأولاد واصبح دخولها إلى غرفتها صعباً ونبشاً لشجون الأيام  الحلوة  ،تنام مع ليلى وسامح ،فى ذلك الصباح بكت وجرى الدمع سخياً وعندما خشيت استيقاظ ليلى وسامح ورؤيتها هكذا  خرجت على مهل إلى الصالون  وفيه استسلمت أسيرة للأحزان ونظرت إلى  صورته ، وهمست باعتذار لأنها لم تستطع التصدي للبكاء ، ولكنها  لم تبك ولم تظهر ضعفاً أمام سامح وليلى ،

 وفى الأسكندرية طافت تحاول اقتفاء الأثر ،وكانت ملامحه فى الطرقات ،وعند النواصي  ،وفى المقاهي التى جلسوا إليها يوماً ، وأيقنت أنه يرافقها ومن كل مكان يرمقها  وفى الليل تتعلق بالسماء لتلملم ملامحه من أعماق النجوم ، وعندما  فتحت الباب رأته يمسك بيد أبو الفضل الذى بدا خجلاً  ، لكنه أبدى ترحيباً به ،وقام وتناول طبق المكرونة  الكبير  وعندئذ وقف أبو الفضل فضحك طالباً منه الجلوس وقال له  (( أنت ضيف )) ثم أزاح الشوك والسكاكين جانباً  ونظر إليها قائلاً  (( نحن مقاتلان  ونفضل البساطة ))  وفي رمضان كان يطلب منها أن تحجز نصيب أبو الفضل  من الكنافة  ، وفى العيد يعد له الكعك ،وكان يقول إنه من الواجب أن نخفف الوحدة  عن الإنسان الذى أبتلى بالوحدة  فلا أم ولا أب ولا أسرة  له إلا المجموعة  ،

وها هى تمضي  الآن وحيدة  ولا يظللها بجناحيه ولا يخفف عنها بهمسة  وتمر من بعيد بحديقة المنتزه ولا تعبر الباب ولا تتخطى السور  ،وعندما جاء مصطفى قال بصوت باك إن الأكل الذى كانت  تعده له بعد إصابته  بالقرحة كان يقتسمه معه  ، وفى كل صباح يأتى صوت مصطفى  عبر التليفون متسائلاً  (( ألا تحتاجون إلى شىء  )) ، وجاء وسام وجاء علاء وجاء السرساوي يحمل صورة زيتية للحبيب الغالي  ،وضعتها بين صور عصام الدالي وعمرو سعيد وبقية شهداء  المجموعة والذين علق صورهم  بنفسه فى الصالون  ، أما أبو الفضل فلم يره ، وقالوا له إن خدمته انتهت  ، وأنه لم يتصل بأحد منهم ،ولم يره أحد ، وأنه رحل إلى أماكن لا يعرفها أحد  ، و التحق كل فرد من المجموعة بوحدة  ، وفي حديث لمصطفى قال إن الكثيرين جاءوا إلى مقر الحبيب ليروا أين عاش ؟ وأين فكر ؟ وأين وضع خطط الهجوم ؟ وقال مصطفى  إنهم ضباط وجنود لم يرهم أبداً ولم يسمع عنهم وبعضهم لم ير الرفاعي ولم يلتق به  ، وجاءت أم مصطفى وقالت إنها لم تره ألا ليلة فرح ابنتها ، لكنها أحبته كمصطفى وتساءلت .. ألا تحتاجين إلأى شىء  ؟ قولي ولا تخجلي

ومع مضي الأيام تتباعد المسافات ،وتصبح الوحدة  عمراً وتطول لحظات الصمت  ، وفى الليل تتأكد من إغلاق النوافذ ،والترباس النحاسي المتين الذي أضافته إلى الباب وعندما يدق الجرس تنظر من العين  السحرية ولا تفتح إلا إذا  استوثقت من القادم  ؟ وفى جوف الليل تصغي إلى برودة البيت ، وترحل عبر سنوات العمر ،تلملم الذكرى  من كل عام ،وتلجأ إلى الدفء فى الأحاديث التي لم يدهمها النسيان ،وتصغي إلى خطوات العائدين بعد منتصف الليل ،وإلى شظايا  ضحكات بعيدة مجهولة  المصدر ، وإلى عبور عجلات المترو  لفواصل ما بين القضبان ، وإذا عجزت عن استعادة ملمح أو عبارة  قيلت يوماً تبكي ..

*****************

 

سيمشي الرفاعى فارداً طوله ومتطلعاً إلى الأمام ،واضعاً نفسه فى أكثر الأماكن تعرضاً للخطر ،سيمشي ليجادل  هذا ويناحر ذاك ليعود بحق ولوضئيل لأحد الرجال ،وليمضي إلى الثكالى ،يخفف عنهم البلايا ،ويقضي الحوائج المنسية  ،ويؤكد وعوده بالثأر للقلوب المجروجة  بسبب رحيل الأحباب  ،وليعلم  الناس لغة العدو فيأمنوا  الخطر المباغت  ،وليعرفوا ما سيفعل  ،وما سيأتي به  إلى الغد ،ومن قبل ذلك  يعلمهم لغتهم فيمحو أمية كل من خاصمه الزمن  ،سيحمل البلد فوق رأسه  ،سيقتفى آثار من ضلوا ليعود  بهم  ،سيسعى خلف كل من يهدده الفناء فى الصحراء  .........  لكم قال  الخبراء وعلماء البحر إن الرياح عتية  والإبحار مستحيل  ،ولم يثن هذا الرفاعي  ،من كل لحظة فى عمر هذه الدنيا سيجىء ،سيبدو للكل  ،من رآهم  ومن سيعمل معهم  ،ومن سيلتقي بهم  على غير اتفاق ،سيظهر  فى الجهات  الأربع الأصلية  ،ويسري إلى الكل ،عندئذ سيمضون إليه  ،فواحد يحنو عليه ، يضمه  ،وآخر برداء الحرب يظلله ، وآخر بالصمت  ينظر إلى وجهه ، وآخر  فى الهجوم يفديه  وآخر قبل الأقتحام يستأذنه  ،وآخر بعد الجرح يلوذ بجانبه ، وآخر يقول نأيت عنا زمناً طويلاً  ولم نعتد منك البعد ، فيقول أبو الفضل عندئذ  ،كان سكنه فى العمر ،وضريحه فى قلبى ...

 

****************

 

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech