Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech
Get Adobe Flash player
مستمرين معاكم بإذن الله 2008-2024 **** #لان_لجيشنا_تاريخ_يستحق_أن_يروي **** ***** إنشروا تاريخنا وشاركونا في معركة الوعي **** تابعونا علي قناة اليوتيوب 1100+ فيديو حتي الان **** تابعونا علي صفحات التواصل الاجتماعي** أشتركوا معنا في رحلاتنا لمناطق حرب أكتوبر **** يرجي استخدام خانة البحث **** *** تابعونا علي تليجرام - انستجرام - تويتر

كل رجال السويس فدائيون في وضح النهار - الجزء الثاني

 

للتواصل مع الكتاب مباشرة

 

بداية مقاومة

فكرة المقاومة لم تظهر فجأة في شخصية أبناء السويس بعد نكسة يونيو، لكنها كانت جزء أساسي وأصيل في تكوين شعب السويس، فبحكم الوضع الجغرافي والتاريخي تعتبر مدينة السويس أول نقطة صدام عسكري مع كل الغزاة القاصدين احتلال مصر من ناحية الشرق، بالإضافة  لكونها الميناء الرئيسي على ساحل البحر الأحمر، والمدخل الجنوبي لقناة السويس، ولذلك كانت السويس كمدينة وشعب يصطدمون دائما بالغزاة، وقد وقعت معارك حاسمة على أرض السويس، وكانت السويس المدينة المصرية الوحيدة التي تعرض أهلها للتهجير من منازلهم ثلاث مرات، مرة عام 1939، ومرة وقت العدوان الثلاثي عام 1956، ومرة أخرى بعد نكسة يونيو 1967.

جميع المتواجدين في السويس من شباب ورجال ونساء وأطفال يعرفون أن تاريخ أجدادهم وآبائهم أو تاريخهم يحتم عليهم دور رئيسي ومهمة أساسية كمدينة وأفراد وهي الدفاع عن مصر ضد أي محتل أو غازي فتجدهم في كل فترات معارك التحرير منذ أيام الهكسوس. وحينما نقرأ تاريخ السويس سنجد أنه منذ القدم تصاعد إلى السويس الجنود من جيش فرعون من أعماق الوادي ليصدوا الغزاة القادمين من الشرق، وليحرسوا في سيناء مناجم النحاس والذهب والفيروز، وفي السويس أيضا تم صد الهجمات الأولى للهكسوس مما أضطر الغزاة إلى تغيير اتجاه دخولهم إلى مصر، وفي عصر الدولة الفاطمية «عام 971» تعرضت السويس لهجوم القراطمة من الشام واتخذها زعيمهم «حسن القرطمي» مركزًا لعملياته الحربية حتى تمكن القائد «جوهر الصقلي» من طردهم نهائيًا من مصر في المعركة التي  دارت على أرض السويس وقتها.

ووقت الحروب الصليبية، كان «صلاح الدين الأيوبي» يحصن قلاع السويس بعد اقتراب الصليبيين منها، ومن بعده قام أخوه «العادل الأيوبي» باستخدام السويس كقاعدة عسكرية للأسطول الضخم الذي بناه وأنزله في ميناء السويس وطارد به سفن الصليبيين التي كانت تتخذ من ميناء العقبة ميناءًا لها.

وفي عام 1260 ميلادية قام «الظاهر بيبرس» سلطان مصر بتعمير قلعة السويس وأقام فيها حامية قوية، باعتبارها خط الدفاع الأول للدولة المصرية، كما أنه في فترة الحكم العثماني لمصر، كانت السويس قاعدة رئيسية للسلطان «سليمان باشا» أثناء غزو اليمن.

وفي الحملة الفرنسية على مصر أرسل «نابليون» قوة عسكرية لاحتلال السويس، ودارت معركة بين شعب السويس والجنود الفرنسيين في عام 1798، قامت خلالها الحملة الفرنسية بتدمير ونهب كل شبر في مدينة السويس، وقال «الجبرتي» في وصفه لما فعله الفرنسيون بالسويس وقت الحملة الفرنسية « نهب الفرنسيون ما وجدوه بالبندر من البن والمتاجر والأمتعة وغير ذلك وهدموا الدور وكسروا الأخشاب وخوابير المياه»، وقتها اضطر أهل السويس للرحيل من المدينة بعد تدميرها وذهبوا إلى منطقة الطور.

وظلت السويس في تلك الفترة نصب أعين الفرنسيين، حيث أصبحت قاعدة حربية للسفن الفرنسية التي تم تصنيعها في ترسانة بولاق ومن السويس قام الأسطول الفرنسي باحتلال القصير وفرض سيطرة فرنسا على البحر الأحمر، ولم يقض على هذه السيطرة سوى وصول حملة بريطانية بحرية مضادة من الهند دخلت إلى البحر ووصلت إلى السويس عام 1801.

وفي عهد «محمد علي» أصبحت السويس أول قاعدة عسكرية لمصر ومركزًا للحشود العسكرية المصرية في حربها ضد الوهابيين، ويقول «الجبرتي» أيضًا «إن محمد علي ذهب للسويس في 27 فبراير 1811 ميلادية وأنه أشرف على إنزال خمس من المراكب التي أنشأها باحتياجاتها ولوازمها وعساكرها ووجههم إلى ناحية اليمن، ليقبضوا على ما يجدونه من المراكب، وأن الصناع مجتهدون في العمل في مراكب كبار لحمل الخيول والعساكر واللوازم».

وأثناء الثورة العرابية وبعد أن دخلت البوارج الحربية الإنجليزية قناة السويس في يوليو من عام 1882، لم يحتل الجيش الإنجليزي مصر إلا بعدما مر على السويس وأهلها، ويقول الأستاذ «حسين العشي» المؤرخ السويسي، أنه وقت دخول القوات البريطانية السويس رفض محافظ السويس وقتها إنذار الأدميرال الإنجليزي«هوايت» بإعلان الولاء للخديوي «توفيق»، وأعلن المحافظ أنه مع الثورة ومع «أحمد عرابي» وثارت المدينة وهرب أفراد الجالية البريطانية إلى السفن الراسية في الميناء، ودخلت القوات البريطانية إلى السويس يوم 2 أغسطس 1882، بعد معركة غير متكافئة دارت عند منطقة «الشلوفة» مع الجنود المصريين.

وحينما وقعت مصر معاهدة عام 1936، مع قوات الاحتلال الإنجليزي، كانت السويس على موعد آخر للصدام مع القوات الإنجليزية، حيث إن أول بنود معاهدة 1936 نصَّت على انسحاب القوات البريطانية من القاهرة والإسكندرية والتمركز في مدن قناة السويس، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصل عدد القوات البريطانية في السويس والإسماعيلية وبورسعيد لـ 80 ألف جندي، في حين عمل في تلك المعسكرات ما يقرب من 9 آلاف شخص سويسي، في تلك الفترة كانت هناك مناوشات ومشاغبات دائمة بين الفدائيين المصريين في السويس وباقي مدن القناة وبين القوات البريطانية المتواجدة في منطقة قناة السويس.

لكن فكرة المقاومة المسلحة لقوات الاحتلال الإنجليزي بدأت تظهر جليًا وقت حرب فلسطين عام 1948، وبعدها، وقتها تجاوز عدد أهالي منطقة القناة الذين يعملون في المعسكرات الإنجليزية عددهم الستين ألف شخص، حيث قاموا وعدد من الحركات الوطنية المصرية بالاستيلاء على أسلحة وذخائر القوات البريطانية لتسليح المتطوعين وأفراد الجيش المصري في حرب فلسطين.

ونشر الأستاذ محمد حسنين هيكل وثيقة هامة ورسمية في كتابه «ملفات السويس»، كانت قد أرسلتها لجنة الدفاع البريطانية إلى وزارة الخارجية البريطانية في أواخر عام 1948،تؤكد استيلاء الفدائيين المصريين الذين تواجدوا في السويس على كميات كبيرة من أسلحة الجيش الإنجليزي المتقدمة، ومنها سيارات وزنها ثلاث أطنان، وقنابل عيار 500 رطل، وقتها أوضحت لجنة الدفاع البريطانية إن كميات الأسلحة والمعدات التي استولى عليها الفدائيون المصريون في منطقة القناة قادرة على تجهيز قوة عسكرية متوسطة الحجم.

وأتى نص الوثيقة على النحو التالي «إننا تلقينا من وزارة الحربية تقريرًا عن الموقف الخاص بالقوات البرية في الشرق الأوسط وهو يبين ضمن أمور أخرى كميات الذخيرة وغيرها من المواد العسكرية التي سرقت من مخازن القوات في منطقة القناة في مصر، وهناك زيادة كبيرة في السرقات، وإذا كانت أشياء مثل سيارات وزنها ثلاثة أطنان وقذائف بحرية قد سرقت فهذا يدل على قدر مدهش من التنظيم من جانب اللصوص، والمؤكد أن كمية المواد الحربية التي سرقت منذ بدء القتال في فلسطين قادرة على تجهيز قوة متوسطة الحجم».

وعلى أساس هذه المذكرة وجهت وزارة الخارجية رسالة سرية إلى إدارة المخابرات البريطانية العسكرية «م .أ .ع» تقول فيها بالنص: «لقد عرانا شيء من الذهول ونحن نرى أن كميات كبيرة من المعدات العسكرية تسرق فجأة من مستودعات الجيش من منطقة القناة في مصر، وقد أعددنا للقائد العام قائمة بكميات المواد الحربية التي أبلغ عن سرقتها ابتداءًا من يوم 15 مايو عام 1948، وهي على النحو التالي:

«قنابل عيار 500 رطل – قنابل شظايا عيار 20 رطل – قذائف عيار 5.2 بوصة – قذائف عيار 4 بوصة وقذائف ثقيلة مضادة للطائرات عيار 3,7 بوصة – وقنابل د . ك .. عيار 28 – قنابل د. ك عيار 6 – قنابل دخان د . ك عيار 25 – قذائف د . ك شديدة الانفجار عيار 25 – قنابل هاون عيار 3 بوصة - عددها 1336 قنبلة) – قنابل دخان هاون عيار 2 بوصة (عددها 866 قنبلة) – قذائف د . ك عيار 2 (عددها 2856) قذائف مدفعية عيار 20 مللي (عددها 3784) – ذخيرة عيار 9720 مللي (1530 صندوق) – ذخيرة عيار 9 مللي (2400 صندوق) – ذخيرة عيار 340 بوصة (عددها 432456) – ذخيرة عيار 7,5 مللي (364 صندوق) – ذخيرة عيار 22 بوصة (عددها 10200 طلقة) – خرطوش قذائف توجيه (عددها 27575) – مركبات زنة 3 أطنان (عددها 12 مركبة) – مركبات غير محددة العدد – مركبات نقل سعة 15 طنا متريا (عددها 7) ، وإلى جانب ذلك كميات مختلفة من المتفجرات المتنوعة، والبطاطين والمراتب، وقطع غيار السيارات، وآلاف الكابلات ومواد شتى غيرها من المواد الحربية».. كان هذا جزء مما فعله شباب السويس والفدائيون في منطقة القناة بالقوات الإنجليزية وقت حرب فلسطين.

وفي 8 أكتوبر من عام 1951، ألغى «مصطفى النحاس» معاهدة عام 1936، وهذا معناه أنه ألغي وجود القوات البريطانية في مدن القناة وفي مصر كلها، ومن هنا ازدادت المقاومة المسلحة لجلاء الإنجليز عن مصر.

في كتابه «معركة كفر أحمد عبده» يروى الأستاذ «حسين العشي» المؤرخ السويسي، أنه في تلك الفترة  بدأت فكرة المقاومة المسلحة تتخذ حيز التنظيم، وكان حزب مصر الفتاة أهم الأحزاب السياسية في تنظيم الكفاح المسلح في السويس، برغم كونه أقل شعبية في السويس بعد الوفد وجماعة الإخوان المسلمين، وقتها أنشأت 7 كتائب للفدائيين، ضمت مجموعة من شباب الجامعة المصرية والمثقفين وعناصر من الأحزاب المصرية وجماعة الإخوان المسلمين، وكان أغلب هذه الكتائب من شباب مدينة السويس، وتُعد أهم كتيبة في تلك الكتائب هي كتيبة الشهيد أحمد عبد العزيز، والتي سيطر عليها حزب مصر الفتاة، وكان أغلب قادتها من ضباط الجيش المصري الوطنيين وضمت أكثر عناصر الفدائيين حركةً وتنظيمًا وخبرة.

بدأت تلك الكتائب الفدائية بالاستيلاء على أسلحة وذخائر الجيش البريطاني وإلقاء القنابل على الأهداف الحيوية كمحطات البنزين ومخازن الذخيرة ومهاجمة معسكرات الجيش الإنجليزي وقطع الإمدادات الواصلة إليه كخطوط المياه والاتصالات التليفونية وخطوط السكك الحديدية.

في تلك الفترة عقد عدد من الشباب والعمال والتجار في السويس عدة اجتماعات بعد إلغاء معاهدة عام 1936، لجمع الأموال اللازمة لتدعيم الحرب الشعبية وتنظيم عمليات التدريب العسكري، والدعوة إلى مقاطعة الوجود والبضائع البريطانية، وكان من  بين هذه الاجتماعات اجتماع حاشد ضم نائب السويس وقتها «محمد البديوي» وعدد من الشباب والأعيان منهم «المحاسب وحيد طلبة»، و«المهندس صلاح خيري» و«المحامي عبد الحميد حمدي»، و«محمد السيد هاشم» و«أحمد علي العسكري» و«محمد الشبيني»، و«السيد خليل فراج» و«ياسين الشامي» و«عبد الشافي عبد القادر» و«عبد الحليم عبد القادر» و«حنفي البخاري» و«أمين البخاري»، و«نقولا شاروبيم» التاجر السويسي المعروف وقتها، وتم جمع  مبلغ ألف و169 جنيهاً، ومن بين هذه الاجتماعات اجتماع عقده مجموعة من الموظفين الأجانب وأعضاء الجالية الإيطالية واليونانية في السويس من موظفي البنوك وشركة القناة الفرنسية جمعوا فيها مبلغ 800 جنيه للمساهمة في تدعيم الحركة الوطنية، كذلك عقد اجتماع ثالث لمجموعة من التجار والأهالي الذين لم يحضروا الاجتماع الأول جمعوا فيه 900 جنيه.

وبدأ الفدائيين في شراء الأسلحة والاستيلاء على بعض الذخائر والأسلحة من معسكرات الجيش الإنجليزي، من بينها قيام بعض أفراد الفدائيين بالاستيلاء على ستين صندوقًا من المتفجرات الشديدة التأثير من أحد السفن المتجهة إلى باكستان وقت عبورها من قناة السويس.

وأصبح من الواضح أن مجموعة الممولين لحركة المقاومة الشعبية هم «الحاج محمد البديوي» نائب السويس، و«المقاول أمين فراج»، و«الحاج علي خليل حمزة»، و«الحاج أمين بدرة» وشارك في الحركة والتنظيم عدد كبير من  شباب السويس من بينهم «المحاسب عبد الجواد سليمان» و«صالح الزمزي»، بالإضافة لمجموعة الشباب المتعاونين مع مجموعات ضباط الجيش الوطنيين الذي وصلوا السويس لقيادة كتائب الفدائيين، وكان من بين شباب السويس «محمد الهواري» و«سيد عبد الخالق» و«شحاتة راتب» و«محمد المصري» و«محمد غريب شلبي» و«محمد مصطفى السويفي» و«محمد الخطيب» وغيرهم الآلاف.

وبعد ساعات من وقوع نكسة يونيو 67 اضطر كل أهالي مدن القنال بورسعيد، السويس والإسماعيلة» إلى الهحرة من بلادهم، خاصة بعد أن أصبح العدو الإسرائيلي إعتباراً من يوم 9 يونيو متواجداً على الضفة الشرقية لقناة السويس بداية من «لسان توفيق» وحتى «بورسعيد»، فلم يتبقى بالسويس سوى خمسة آلاف شخص بعدما كان يصل تعداد المدينة إلى 300 ألف نسمة.

وذهب عدد من شباب السويس لمقر منظمة التحرير الفلسطينية في القاهرة، وطلبوا الانضمام لحركة المقاومة الفلسطينية «فتح» لقتال قوات الاحتلال الإسرائيلية، لكن حركة فتح رفضت، ووصل الأمر إلي القوات المسلحة المصرية، وقتها استدعت القوات المسلحة هؤلاء الشباب، و كان من بينهم كلاً من «محمود عواد»، «عبد المنعم قناوي»، «محمود طه» ومجموعة من شباب السويس واستقر الرأي على  تكوين مجموعات فدائية من شباب السويس تحت اسم منظمة سيناء العربية، وبدءوا التدريبات القتالية بعد أيام من نكسة يونيو، وامتدت العمليات الفدائية لأفراد منظمة سيناء العربية إلى أن ذاع صيتها ووصل عدد أفرادها لـ 757 فرد من السويس والإسماعيلية وسيناء.

الفصل القادم يستعرض بالتفصيل كيف قام « اثني عشر شخص» من الفدائيين في السويس بتنفيذ عملية «وضح النهار» التي أسفرت عن مقتل تسعة أفراد من العدو الإسرائيلي بينهم ضابط وأسر جندي وتدمير دبابة ومدرعتين ورفع العلم المصري على سيناء.

عملية وضح النهار

في أواخر عام 1969، كانت العمليات الفدائية التي يقوم بها جدعان السويس منذ نكسة يونيو ملئ السمع والبصر، كل بضعة أيام عملية في عمق سيناء ضد العدو الإسرائيلي، وذاع صيت أفراد منظمة سيناء العربية الذي يقودهم جهاز المخابرات الحربية، وقتها قررت القيادة العامة للقوات المسلحة تنفيذ عملية عسكرية داخل سيناء، تحديدًا في المنطقة المقابلة لمنطقة «بور توفيق» شرق قناة السويس.

لم ينتظر الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» كثيراً، فقد كان يتابع تفاصيل تلك العملية بنفسه، حيث أرسل أحد رجال الحرس الجمهوري الخاص به وهو العميد «حسين دراز» إلى السويس ليقود مجموعة الفدائيين من منظمة سيناء العربية في تلك العملية، كان «محمود عواد» و«مصطفى أبو هاشم» و«إبراهيم سليمان» و«حلمي شحاتة» و«محمود طه» و«أشرف عبد الدايم» و«سعيد البشتلي» و«عبد المنعم قناوي» و«محمد سرحان» و«أحمد عطيفي» وزملائهم، هم أفضل رجال الفدائيين في تلك الفترة، وكانوا مجموعة واحدة  لا تتعدى خمسة عشر فردًا، توكَّل إليهم أخطر الأعمال الفدائية ضد العدو.

وصل العميد دراز إلى عواد ورفاقه وبدءوا التدريب للعملية بسرية تامة، في أحد المناطق القريبة من ميناء «العين السخنة»، والتي طالما تدربوا فيها على معظم عملياتهم الفدائية التي قاموا بها، العملية كان هدفها العبور للضفة الشرقية من القناة، وتدمير دورية إسرائيلية ورفع  العلم المصري على سيناء، والرجوع بأسير إسرائيلي على الأقل لضرب العدو معنويًا.

قبل يومين من تنفيذ العملية تواجد الفدائي محمود عواد وزميله مصطفى أبو هاشم، أمام المنطقة التي سينفذوا العملية الفدائية بها، لكنهم سمعوا أصوات غارات وآليات عسكرية إسرائيلية تتحرك على الجهة المقابلة لهم في سيناء، مما ينبئ بحدوث غارة عليهم من العدو، فسألوا قائد الوحدة، الذي أخبرهم أن هذه الأصوات مستمرة منذ عدة أيام، والوحدة في حالة استعداد تام.

وقتها  كان كل المتواجدين في الوحدة العسكرية من جنود وضباط وضباط صف متأهبين بلا نوم منذ فترةٍ  طويلة، استعدادًا لتلك الغارة، لكن «عواد» و«أبو هاشم» استأذنوا قائد الوحدة بعبور قناة السويس في جنح الظلام، ليستطلعوا حقيقة تلك الأصوات، وطلبوا تأمينهم بالمدفعية لحين عودتهم إلى الضفة الغربية للقناة مرة أخرى.

يحكي «محمود عواد» عن تلك العملية وعلامات الفخر تسيطر على وجهه، حيث يقول: «قبل العملية بيومين كنت أنا وزميلي الشهيد «مصطفى أبو هاشم» في الوحدة التي سنعبر من خلالها للضفة الشرقية، سمعنا أصوات كثيرة والجنود والضباط المتواجدين معنا منذ فترة طويلة لم يستطيعوا النوم  بسبب هذه الأصوات، استأذنا قائد الوحدة بالعبور، رفض في البداية وبعد إلحاح وافق أن نعبر وهو يغطينا بسلاح المدفعية، نزلنا القناة كانت الموجة عالية جدًا والتيار أخذنا لأكتر من 5 كيلو متر بعيد عن الوحدة اللي بتغطينا بالمدفعية».

 «قعدتنا نعافر لحد ما عدينا القناة وإحنا عايمين، وطلعنا للنقطة اللي هنعمل فيها العملية، لاقينا أسلاك شايكة كنا مدربين على قطعها وخلقنا ثغرة ندخل ونخرج منها، كان معانا سكينة صغيرة، و«بنسة» لقطع الأسلاك، و«مفك» لاكتشاف الألغام في تلك المنطقة، دخلنا من الثغرة، وقعدنا نتحسس الأرض، لم نجد أي ألغام، ولا توجد أي قوات إسرائيلية في المنطقة، لكن أصوات الدوريات الإسرائيلية مستمرة».

 حينما اقترب «عواد» و«أبو هاشم» من المنطقة أكثر وجدوا مجموعة من مكبرات الصوت في أماكن متفرقة من تلك المنطقة ومتصلة ببعضها بأسلاك، اكتشفوا أن العدو الإسرائيلي  كان يخدع قوات الجيش المصري المتواجدة غرب القناة وينقل أصوات التحركات لهم عبر مكبرات الصوت، حتى من يسمعها من مسافة بعيدة يُخيَّل له أن العدو سيقوم بالإغارة على المواقع المصرية في الحال.

«قمت أنا والشهيد مصطفى بإبطال مفعول الصوت من خلال نزع الأسلاك من بعضها وسكت الصوت وكل ده ولم يكن هناك قوات للعدو في تلك المنطقة، بعدها حفرنا في الأرض مكان كي نثبت فيه علم مصر، حينما نأتي لتنفيذ المهمة الأساسية، بعد يومين، حتى لا نتعطل وقتها في حفر مكان العلم مرة أخرى»..يحكي عواد.

 «إحنا قعدنا في العملية دي ما يقرب من أربع ساعات وبعدين نزلنا القناة تاني ورجعنا للوحدة العسكرية، وجدنا القائد بيضرب كف على كف، وكان متخيل أننا اتقتلنا وحصل اشتباكات بيننا وبين العدو، وحكينا له على ما رأيناه هناك، أخدنا بالأحضان وكل من كان في الوحدة كانوا في منتهى السعادة، بعدها قائد الوحدة أمرهم يناموا، كنت تشوف العساكر والضباط أول ما القائد أمرهم يناموا، يصعبوا عليك بقالهم فترة طويلة لم يناموا بسبب الصوت اللي بيسمعوه، واللي اتضح أنه خدعة من العدو».

في الأيام القليلة التي جمعت بين مجموعة الفدائيين والعميد «حسين دراز»، خلقت علاقة حب ومرح شديدة بين أصدقاء يجمعهم هدف واحد وهو تحرير الوطن من العدو الإسرائيلي، كان العميد دراز يذهب كل يوم لمنزل «محمود عواد» القريب من «ميدان الأربعين» حيث كان الفدائيين يتجمعون فيه دوما.

وفي مساء يوم 3 نوفمبر من العام نفسه لم يكن يعلم أحد من الفدائيين أن موعد تنفيذ العملية قد حان، دخل عليهم قائد العملية العميد دراز، وبابتسامة لطالما تعود عليها في حديثه معهم«أيه يا رجالة جاهزين؟»، رد عواد ورفاقه «جاهزين يافندم»، بادلهم دراز بسؤاله «يعني جاهزين تطلعوا العملية دلوقتي؟ ولا فيه حد مش مستعد؟»، بادره الفدائيون بموافقة سريعة وحماسية وعلى وجوههم علامات الفرحة، بدءوا في تجهيز أنفسهم وارتداء ملابسهم، كان رداء الفدائيون وخصوصًا أعضاء منظمة سيناء العربية، عند الذهاب لعملية فدائية يشبه اللون «الزيتي» المميز لملابس للقوات المسلحة.

بلغ عدد المجموعة الفدائية اثنا عشر فردًا، نزلوا من بيت «محمود عواد» واستقل جزء كبير منهم السيارة الجيب، التي كان يستقلها قائد العملية العميد دراز وانتظر «محمود عواد» و«مصطفى أبو هاشم»، أن تعود إليهم السيارة الجيب بعدما ترسل زملائهم لمكتب المخابرات الحربية، نظرا لأن مساحة السيارة وقتها لم تسع الجميع، بعدها بأقل من نص ساعة عادت إليهم السيارة ودخل الجميع مبني المخابرات الحربية بالسويس، استعدادًا لوضع خطة العملية.

مبني المخابرات الحربية في السويس عبارة عن مدرسة بجوار مبني المحافظة، فبعد تهجير الأهالي فور هزيمة يونيو، كانت هناك مباني كثيرة فارغة، وكان الجيش والمخابرات يستغلونها لإدارة العمليات من خلالها، بلغت مساحة المدرسة التي أصبحت مكتب المخابرات الحربية شاسعة للغاية، دخل الفدائيون خلف قائدهم إلى إحدى الغرف الكبيرة بالمدرسة، والتي كانت مركز للقيادة حينها، الغرفة أشبه بغرفة اجتماعات لقادة الجيوش، وفي كل متر منها منضدة، مرسوم عليها ماكيت وخرائط لسيناء وقناة السويس، من بينها ماكيت كبير للمنطقة الموكل إليهم تنفيذ عملية فدائية بها، والتي تقابل منطقة «بور توفيق».

بدأ العميد دراز يشرح لعواد ورفاقه الصعوبات التي ستواجههم في العملية، والمناطق التي سيمرون عليها، وأشار بأصبعه على جزء  من المنطقة المستهدفة وقال «هتقابلوا هنا ألغام يا رجالة خلي بالكم»، لكن «محمود عواد» و«مصطفى أبو هاشم» قد عبروا تلك المنطقة قبل يومين بالفعل ولم يجدوا ألغام، كما  أنهم لم يخبروا قائد العملية بذلك، تدخل عواد سريعًا، وقاطع حديث العميد دراز قائلًا «يافندم مفيش ألغام في المنطقة دي».

رد عليه العميد دراز بالنفي، لكن عواد عاود حديثه قائلًا «يافندم أنا عديت من يومين أنا و«مصطفى أبو هاشم» ولم نجد ألغام، وما تشير به سيادتك سلك هيكلي مش ألغام».. فجأة ساد الصمت بين الجميع، ونظر العميد دراز لعواد باستغراب، ثم أنهى حديثه وخرج من غرفة العمليات، كي يحضر عدد من القيادات في المبني، وقتها أحس عواد للحظة، أن هناك قرار بإعدامه قادم في الطريق، فقد خالف قائده مرتين، مرة حينما عبر القناة بدون علمه، ومرة أخرى حينما قاطعه وكذّب حديثه.

 لكن عدد من قيادات الجيش دخل إلى غرفة الفدائيين، وطلبوا من عواد أن يحضر معهم للخارج، أعادوا عليه السؤال مرة أخرى، وجاوبهم للمرة الثالثة أنه عبر ولم يجد شيء وشرح لهم طبيعة المكان، وأخبرهم أنه جهز «الحفرة» التي سيقومون بغرس العلم المصري فيها، كما أنه فتح ثغرة لعبور المجموعة الفدائية، وقتها هلل القيادات وأخذوا عواد بالأحضان، قائلين له «برافو عليك يا بطل»، كانت قيادة الجيش سترسل ضابطين من سلاح المهندسين مع المجموعة لفتح ثغرة في شرق القناة، وحينما أخبرهم عواد بأن الثغرة قد فتحت، لم يصبح لضابطي سلاح المهندسين أي دور في العملية.

كان اللواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية وقتها والرئيس جمال عبد الناصر يتابعون خط سير العملية لحظة بلحظة، وعلموا بأن «محمود عواد» و«مصطفى أبو هاشم» عبروا القناة قبل بدء العملية وفتحوا ثغرة، ودرسوا طبيعة المنطقة،فوجئ «عواد» وهو في غرفة العمليات، باتصال من اللواء فؤاد نصار يطلبه بالاسم كي يشكره، قائلا له «شد حيلك ياعواد بلدكوا محتاجلكوا، خلي بالكم».

بعدها بدقائق رن التليفون مرة أخرى، رد العميد حسين دراز، ثم أعطى سماعة التليفون لمحمود عواد، قائلًا له«كلم الريس يا عواد»، لم يتوقع عواد أن يتصل به الرئيس «جمال عبد الناصر» شخصيًا. أخذ سماعة التليفون، والدهشة تسيطر عليه، لا يزال عواد يتذكر كلمات عبد الناصر له ورفاقه حتى الآن، «يا عواد العملية مفتوحة أتصرف فيها كيفما تشاء». يتذكر عواد تلك الكلمات، بعد مرور 45 عام على وقوعها والابتسامة على شفتاه ويقول «يا سلام يا ولاد كنت أول مرة الريس عبد الناصر يكلمني، صوته فيه حاجة تخليك تاكل الزلط».

انتهىت المجموعة من وضع اللمسات الأخيرة للعملية وأخذوا العلم المصري الذي سيرفعونه على أرض سيناء، وانصرفوا من مبنى المخابرات الحربية متجهين إلى أقرب نقطة على الجبهة حيث القارب المطاطي في انتظارهم لعبور القناة، كان هناك ضابطان من سلاح البحرية المصرية في انتظارهم على شاطئ القناة، وكانت الخطة الموضوعة أن يعبر الضابطان من سلاح البحرية قناة السويس سباحةً، ممسكين بحبل مربوط في القارب المطاطي وعند الوصول للضفة الشرقية يقوموا بتعليق الحبل بأحد المتاريس الصغيرة الموضوع على شط القناة من ناحية سيناء، والغرض من تلك العملية أن يعبر القارب المطاطي دون تشغيل «الموتور»، أو الإشارة لأي صوت يعبر القناة حتى لا يكتشفهم العدو، معتمدين على التجديف في المياه وقيام ضباط البحرية بسحبهم.

لكن حينما وصل الفدائيين للشط قبل فجر يوم 4 نوفمبر 1969 بدقائق، لاحظوا الارتباك والخوف واضحين على أحد ضباط البحرية المكلفين بالسباحة في القناة، حيث ارتعش جسده خوفًا من تنفيذ العملية، وخيل له من شدة الأمواج المتلاطمة أمامه في مياه القناة أن هناك «لنش» من قوات العدو يعبر إليهم في محاولة لاستهدافهم.

حاول «محمود عواد» أن يسيطر على الموقف بسرعة، وطلب من ضابط البحرية أن يهدأ، محاولاً طمأنته، لكن الضابط استمر في الخوف، مما أجبر عواد على الذهاب إلى العميد دراز وطلب منه ألا يشرك ضباط البحرية في العملية نظراً لارتباكهم، بعدها أمر العميد دراز «ضابطي البحرية» بالرحيل فورًا من المنطقة.

وكان اثنين من جدعان السويس من أمهر الفدائيين في السباحة،«مصطفى أبو هاشم» و«سعيد البشتلي» هم من أوكلت لهم مهمة السباحة في القناة لسحب القارب المطاطي، حتى لا يشعر بهم العدو، ونزل الفدائيون بالقارب معتمدين على التجديف، فيما قام بسحبهم أيضًا زملائهم الذين سبقوهم بعبور القناة سباحةً.

 كان التيار هادئ وقتها في مياه القناة، لم يعاني الفدائيون من العبور، وصلوا لسيناء، تسللوا  من الثغرة التي صنعها عواد وأبو هاشم قبل العلمية بيومين، أول شيء واجهوه في أرض سيناء «سلك هيكلي»، وضعه العدو الإسرائيلي بغرض كشف أي محاولة لعبور القناة بمجرد لمسه، بينما سلاح المهندسين المصري كان قد أخبر الفدائيون بأفضل طريقة لقطع هذه الأسلاك دون أن يشعر العدو.

«سلاح المهندسين ورانا سلك زي اللي هناك بالظبط، قالنا السلك ده لو قصتوه مش هيعمل حاجة، لأن ده معتمد على الضغط،، أما الأسلاك التانية هتضعوا «كلبسات» هنا و«كلبسات» هنا وتقطعوها»، هكذا روى «محمود عواد».

دخلت المجموعة أرض سيناء وقاموا بتقسيم أنفسهم ثلاث مجموعات، مجموعة ساترة يمين مكونة من «إبراهيم سليمان» و«مصطفى أبو هاشم» ومجموعة ساترة يسار مكونة من «محمود طه» و«حلمي شحاتة»، ومجموعة الاقتحام فيها «محمود عواد» و«أشرف عبد الدايم» و«سعيد البشتلي» و«محمد سرحان» و«أحمد عطيفي» وباقي الـفدائيين.

كل واحد منهم له دور مخطط له، المجموعة الساترة من جهة اليمين كانوا فردين أحدهم يحمل آر بي جي مضاد للدبابات، فيما يحمل الآخر رشاش آلي، وكذلك المجموعة الساترة من جهة اليسار، وذلك لتأمين مجموعة الاقتحام من أي هجمات للعدو  قبل انتهائها من حفر الأرض وزرع العبوات الناسفة ورفع العلم المصري.

وقامت مجموعة الاقتحام بقيادة «محمود عواد»، بحفر جزء من الطريق اعتقدوا أن الدورية الإسرائيلية ستمر منه، ووضعوا بداخله، عبوة «تي إن تي»، قابلة للانفجار بمجرد المرور عليها، كانت تلك العبوة ذات حجم كبير، قام بتوصيلها «أشرف عبد الدايم» أحد أفراد المجموعة، حيث كان متخصص في توصيل القنابل والتيارات الكهربائية، ولطالما أذهل القادة العسكريين من اختراعاته.

انتهت مجموعة الاقتحام من زرع العبوة الناسفة، وكان مقرر للدورية الإسرائيلية أن تعبر من هذه المنطقة في تمام السابعة صباح يوم 4 نوفمبر عام 1969، حسبما أخبرهم رجال الاستطلاع البدو داخل سيناء والذين هم أيضًا من أعضاء منظمة سيناء العربية وكانوا يمدون القيادة العامة للقوات المسلحة بكل المعلومات خلف خطوط العدو.

انتظر الفدائيون ساعتين، واحتموا ب«تبات صغيرة» على بعد خمسين مترًا من زرع العبوة الناسفة، في انتظار مرور الدورية الإسرائيلية، حتى يضغطوا على جهاز التفجير الموضوع بجانبهم وقت مرور الدورية، الملل أصاب الفدائي حلمي شحاتة حامل« الآ ربي جي» من المجموعة الساترة يسار، فأخذ يغني ووجد علبة عصير قديمة على الأرض «مصنوعة من الصاج وتخللها الصدأ»، أخذها وظل ينقر عليها للحظات ويقول «يا صلاة الزين يا صلاة الزين»، رد عليه زميله «محمود طه» طالبًا منه التوقف والصمت حتى لا يكتشفهم العدو، وأخذ منه علبة العصير الصدئة ودفنها بجواره في الرمل... ولهذه الواقعة قصة مثيرة للدهشة.

حينما دقت السابعة والنصف، تلقى محمود عواد إشارة لاسلكية من القيادة على الضفة الغربية للقناة، تطلب منهم أن يقوموا بإلغاء العملية والانسحاب بسرعة من حيث أتوا، لأن العدو أكتشف تسللهم لأرض سيناء، والطائرات الإسرائيلية تستعد لمهاجمتهم.

يقول عواد في شهادته لذلك التوقيت بالذات «أول ما سمعت كلمة ألغى العملية والقيادة بتقولي أرجعوا، قلت له تمام  يا فندم وأغلقت جهاز اللاسلكي، لكن كنا مصممين على تنفيذ العملية حتى لو جاء الطيران الإسرائيلي وقصفنا، إحنا كنا متحمسين لدرجة كبيرة لازم نقتل اليهود، وفضلنا منتظرين لحد ما الساعة أصبحت السابعة و40 دقيقة صباحاً بالضبط، بدأنا نلمح ظهور الدورية الإسرائيلية من بعيد، وكانت عبارة عن عربيتين مدرعتين ودبابة».

في تلك الأثناء  كانت دبابة العدو تمر أولا وخلفها العربتان المدرعتان موضوع بأسفل كل عربة، «مسّاحات» تقوم بتجريف الأرض، كي تبحث عن أثار لأقدام الفدائيين أو شيء يثبت مرور أشخاص في تلك المنطقة، وكان أمام العربتان المدرعتان جندي إسرائيلي يسحب كلبين  كل منهم مدرب على اكتشاف الألغام والعبوات الناسفة، في تلك المنطقة، وهناك كلب بوليسي أخر يتوغل في المنطقة دون أن يسحبه أحد.

«بصينا لاقينا كلب منهم جه عند العبوة الناسفة اللي دفناها وقعد يشم، لكن شاء القدر ألا يكتشف الكلب المتفجرات، ولم يكتفي الكلب بذلك، بل إنه تبول على مكان العبوة فور وصوله إليها، وهذا شيء من عند ربنا علشان لو كلاب أخرى جاءت مش هتكتشف أنه فيه هنا متفجرات بسبب تبول الكلب مكان العبوة»، هكذا يروي لي «محمود طه» أحد أفراد المجموعة الساترة يسار في تلك العملية شهادته.

وفور مرور الدبابة الإسرائيلية مكان العبوة الناسفة، كان أفراد المجموعة متخفيين وراء تبات صغيرة بالقرب من الدورية الإسرائيلية، أمهلوا أنفسهم بضع ثوان وقام أحدهم بالتكبير، بعدها ضغط على جهاز التفجير الموجود معه، وانفجرت الدبابة، لدرجة أن عدد من الفدائيين أنفسهم توقفوا عن السمع بأذنيهم لثوان معدودة من شدة الانفجار، واقترابهم منه.

بدأ إبراهيم سليمان من المجموعة الساترة يمين يضرب طلقات الآر بي جي على  الدبابة والمدرعتان، ومن ناحية اليسار أرسل حلمي شحاتة هو الآخر أرسل قاذفة آر بي جي اخترقت برج الدبابة مباشرة. ثم بدأ كل أفراد المجموعة بالاشتباك بشكل مباشر مع من تبقى من جنود العدو، أحد جنود العدو خرج من الدبابة فور انفجارها، وحاول أن يهرب من فتحة الثغرة التي صنعها الفدائيون، لكنه من شدة الاشتباكات عاد للخلف مرة أخرى، ثم ألقى سلاحه على الأرض ورفع يديه إشارة لاستسلامه، ثم ألقى بنفسه على الأرض.

حاول «محمود عواد» الذهاب لأسر الجندي الإسرائيلي، فقد شددت عليهم القيادة المصرية بضرورة أسر أي فرد إسرائيلي حتى لو كان جثة هامدة، لكن المعركة لا تزال مستمرة، و«عواد» يريد تأمينه من المجموعة الساترة يمين والمجموعة الساترة يسار، غير أن طلقات الآ ربي جي نفذت من سلاح إبراهيم سليمان، وأيضًا من سلاح حلمي شحاتة.

 وكانت إحدى المدرعات الإسرائيلية تقترب من المجموعة الساترة شمال المتواجد فيها حلمي شحاتة - والذي نفذت ذخيرته- ومحمود طه - الذي لازال معه رشاش آلي-  فين حين يحاول أحد الجنود الإسرائيليين الإمساك بالمدفع الرشاش أعلى المدرعة لاقتناص المجموعة، لكن من شدة التوتر والخوف غير قادر على الإمساك بالمدفع، وفي نفس الوقت يريد «محمود طه» اقتناصه من أعلى المدرعة إلا أن الرؤية الضبابية أمامه جعلته يخشى إطلاق رصاصاته دون أن يصيب أحد ومن ثم تنفذ ذخيرته.

أخذ «محمود طه» علبة العصير الصدئة التي دفنها بجواره قبل بدء المعركة، وألقاها على سقف المدرعة، أحدثت صوت خفيف، خيل لكل من كان داخل المدرعة من جنود إسرائيليين أنها طلقات رصاص، فقفزوا بسرعة من المدرعة، وأصبحوا صيد سهل لكل أفراد العملية من الفدائيين المصريين، الذي تناوبوا على قتلهم.

بعدها اقترب «محمود عواد» من الجندي الإسرائيلي الملقى على الأرض وقام بأسره، «شيلته وهو كان عامل نفسه ميت لكن هو سليم، كانت المشكلة أننا مخدناش حبل معانا نكتف الأسير أو أي شيء، والله لو معانا حبال كنا جبنا كل الجنود اللي قتلناهم، فضلت شايله لمسافة 300 متر، وسلمته لمحمود طه وقلتله اتحفظ عليه، لحد ما أروح أغرس علم مصر، قبل ما نتحرك».

ذهب «محمود عواد» ليغرس علم مصر في «الحفرة» التي أعدَّها قبل يومين من تحركهم للعملية، ورفع علم مصر على أرض سيناء في ذلك اليوم لأول مرة منذ نكسة يونيو، بعدها رأى جنودنا على الجبهة في الضفة الغربية العلم المصري يرفرف على أرض سيناء انهالوا بالتكبير.

بدأ أفراد المجموعة في الانسحاب واحداً تلو الآخر، كان «محمود طه» أول المنسحبين من المجموعة الساترة  يسار، طبقًا للخطة الموضوعة، وأخذ معه الأسير الإسرائيلي الذي سلمه له «محمود عواد» ونزل إلى القارب المطاطي وهو واضع يديه اليسرى على رقبة الأسير الإسرائيلي، فيما كانت يده اليمنى المُمسكة بسلاحه على كتف الأسير وعينيه تنظر لباقي أفراد المجموعة ونزل به للقارب، بعد دخولهم القارب ،حاول الأسير الإسرائيلي أن يقاوم «محمود طه» بقطع جزء من القارب المطاطي، لكن «طه» وضع قدميه حول الأسير، فأخذه الأسير ونزل به في مياه القناة، ظل «طه» ممسكاً به إلى أن جاء باقي أفراد المجموعة وأنقذوه وانسحبوا، وظل العلم مرفوعًا لعدة أيام، حتى أصبح مزارًا سياحيًا لعدد من قيادات الجيش المصري على الجبهة، كي يرفع من روحهم المعنوية لتحقيق النصر.

انتهت تلك العملية بقتل تسعة إسرائيليين بينهم ضابط، وأسر جندي وتدمير دبابة ومدرعتين ورفع العلم المصري على سيناء، بعدها حاولت إسرائيل في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر من نفس اليوم  أن ترد على هذه العملية فأرسلت بعض طائراتها تهاجم مواقع الجيش المصري غرب القناة، لكن المدفعية المصرية تصدت لها وأسقطت إحدى طائرات العدو.

وقتها اعترفت إسرائيل بخسائر تلك العملية حيث أعلن المتحدث العسكري الإسرائيلي في بيان له أن مجموعة الكوماندوز المصرية هاجمت في الثامنة من صباح يوم الأربعاء «4 نوفمبر  عام 1969» قوة إسرائيلية في المنطقة المواجهة لمنطقة «بور توفيق»، وقتلت تسعة إسرائيليين وأسرت جندي.

 وعلى الصعيد المصري وقتها نشرت صحيفة «الأهرام المصرية» خبر صحفي عن العملية وكتب في مانشيت عريض لها أن «قوة مصرية عبرت القناة نهاراً وتوغلت في خطوط العدو ودمرت له دورية مدرعة»، لكن «الصحيفة» مثلها مثل الجيش الإسرائيلي كانت تعتقد أن من قام بهذه العملية هم مجموعة من قوات الصاعقة في الجيش المصري.

كما نشرت جريدة «الأخبار» مانشيت عريض في عددها الصادر «6 نوفمبر 1969» بعنوان «هاجمنا في وضح النهار واستطاعت قواتنا المسلحة أن تقتل ضابط و8 جنود إسرائيليين وتأسر جندي وترفع علم مصر على سيناء».

وعلى الصعيد العربي نشرت جريدة «الدستور العربية» وقتها مانشيت بعنوان «أكبر هجوم ناري مصري عبر القناة، مجموعة كبيرة من القوات الخاصة عبرت القناة وهاجمت دورية مدرعة للعدو وقتلت 9 إسرائيليين وأسرت واحد».

  كما نشرت جريدة «الأنوار اللبنانية» في عدد «6 نوفمبر» من نفس العام مانشيت  بعنوان «ضرب مدرعات العدو في سيناء أكبر هجوم للقوات المصرية في وضح النهار».

وجريدة صوت «العروبة العربية» نشرت تقول أن «مجموعة من الكوماندوز المصريون يشنون أجرأ عملية هجومية في سيناء في وضح النهار».

لكن في الحقيقة من قام بهذه العملية هم أبطال المقاومة الشعبية من الفدائيين في مدينة السويس، وأعضاء منظمة سيناء العربية التي يقودها جهاز المخابرات الحربية وقتها.

Share
Click to listen highlighted text! Powered By GSpeech